لم يكن فجر الرابع عشر من أكتوبر عام 1932 فجرًا عاديًّا في القاهرة. كانت المدينة ما تزال في سباتها، حين انطفأ في بيت عتيق بالجيزة أحد أنوارها الخالدة. هناك، كان رجلٌ يتهيأ لرحلته الأخيرة في سكينةٍ تليق بمن عاش كريمًا ومات مهيبًا. ذلك الرجل هو أحمد بك شوقي — أمير الشعراء، الذي صعد إلى الخلود كما يصعد بيتًا من شعرٍ بين الأرض والسماء. في تلك اللحظات الحاسمة، نادَى خادمه بصوتٍ مبحوحٍ: "أشعر بآلامٍ في صدري… وضيقٍ في التنفس، فحاول إسعافي." لكن الطبيب لم يسبق القدر. التفت شوقي مبتسمًا في هدوءٍ نبيلٍ وقال كمن يودّع بحكمةٍ الراضين: "لا أمل بعد الآن… إن أمري قد انتهى، فسلامٌ على أولادي وأصدقائي." ثم أغمض عينيه، وكأنما يسلّم روحه إلى قصيدته الأخيرة، تاركًا على قبره وصيةً تختصر مسيرته كلها: "أن جلّ ذنبي عن الغفران لي أملٌ في الله يجعلني في خير معتصمِ" النبيل الذي اعتذر للفقر قبل موته بساعاتٍ قليلة، كانت إنسانيته تنسج آخر أبياتها. رأى في طريقه رجلًا فقيرًا كان قد صرفه من قبل، فتنهد وقال لسائقه: "ابحث عنه… فلعلّه في حاجةٍ أشد ممن تقدّموه." وحين جاءه الفقير، أعطاه ما تبقّى في جيبه، واعتذر له بصوتٍ خافتٍ كأنه يعتذر للعالم كله: "لا تؤاخذني، فأنا مريضٌ وأعصابي ضعيفة." أيّ قلبٍ ذاك الذي يعتذر للفقر وهو على مشارف الموت؟ أيّ روحٍ تلك التي توزّع الرحمة حتى في لحظة الفناء؟ لقد مات شوقي جسدًا، لكنه ترك خلفه ضوءًا يمشي على الأرض، يذكّرنا أن الكلمة لا تكون شعرًا إلا إذا كان القلب إنسانًا. نبوءة في الحديقة قبل أسابيع من الرحيل، كان شوقي يتمشّى في حديقة داره يتأمل الأشجار التي طالما خاطبها شعرًا، وقال لسكرتيره وهو يحدّق في الأفق: "ترى… كم قبرًا تسع هذه الدار؟" أجابه الرجل بدهشةٍ مرتجفة: "ولِمَ هذا السؤال يا باشا؟" ابتسم شوقي وقال في تأملٍ عميق: "خاطرٌ مرّ بنفسي، فتذكرت الموت. فليس الموت بالمصيبة العظمى، بل قد يكون منجاةً من حسد حاسدٍ أو حقد حاقدٍ." يا له من بصيرٍ يرى النهايات قبل أن تطأ العتبات، ويتحدث عنها كمن يكتب سطرًا هادئًا في دفتر الخلود. حين بشّرته الرؤيا : ويروي التاريخ أن شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري زاره في مرضه الأخير، وقال له: "يا أحمد بك، جئت مأمورًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد رأيته في المنام يقول لي: أبلِغ شوقي أني أنتظره." رحل شوقي بعد أيامٍ قليلة، كأنما استجاب لنداءٍ علويٍّ ينتظره منذ أن كتب مدائحه النبوية الخالدة. كأن القدر كان يقرأ معه القصيدة الأخيرة… قصيدة اللقاء. حوارٌ على باب الرحيل ويروي خادمه أنه في إحدى الليالي، بينما كان المرض يشتد عليه، همس شوقي للحارس الذي يقف عند الباب: "يا بني، لا تبكِ إذا رأيتني ساكنًا غدًا. فالسكينة بعد التعب نعمة، والموت بابٌ إلى من نحب." ثم ابتسم وقال: "أتعرف ما الفرق بين الشاعر والموت؟ أن الشاعر يكتب ما سيبقى، والموت يمحو ما لا يستحق البقاء." كانت تلك كلماته الأخيرة إلى الدنيا؛ حكمةُ شاعرٍ فهم أن الخلود لا يُورَّث، بل يُكتَب بالحرف النظيف. الشعراوي وشوقي… حين يلتقي النور بالنور : وحين تحدّث الإمام محمد متولي الشعراوي عن شوقي، قال بصفاء العارفين: " أحمد شوقى رضي الله عنه." ولم يقل " أحمد شوقى رحمه الله"، لأن الروح التي أحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى شفاعة البشر. وقال عنه أيضًا: "لو لم يمدح النبي أحد غير شوقي، لكفاه بيته هذا دفاعًا عن الإسلام وتبيينًا لحقيقته." ويقصد قوله الشهير: الدينُ يُسرٌ، والخلافةُ بيعةٌ والأمرُ شورى، والحقوقُ قضاءُ بيتٌ واحد، لكنه احتوى فلسفة الحكم وعدالة الشريعة وكرامة الإنسان. بيتٌ جعل من شوقي شاعرًا لا يكتب بالحبر، بل بالوعي، ولا ينحت القوافي، بل يخلق منها فكرًا خالدًا. شوقي… القوة الناعمة التي لا تشيخ رحل أحمد شوقي، لكن ظلّه ما زال يرافق مصر حيث تمضي. فهو ليس شاعرًا فقط، بل رمزًا لهويةٍ وطنيةٍ راقية، تجسدت فيها الأخلاق والفن والمعرفة والكرامة. إن تكريمه اليوم ليس مجرّد احتفاءٍ بماضٍ مضى، بل وفاءٌ لتاريخٍ من النور، وإحياءٌ لروح مصر التي علّمت العالم أن الكلمة حين تصدق… تبقى أقوى من الزمن. سلامٌ عليك يا شوقي، وسلامٌ على الذين يشبهونك في الصدق والجمال، وسلامٌ على وطنٍ عظيمٍ ما زال بحاجةٍ إلى من يذكّره أن الخلود لا يُورّث بالدم، بل يُكتب بالحروف.