كنتُ أتهيّأ وكأننى على موعدٍ مع التاريخ ذاته، أعِدُّ نفسى بروحٍ خاشعةٍ وقلبٍ مرتجفٍ بين الدهشة والإجلال أراجع أسئلتى بارتباكٍ لم أعرفه من قبل، وأستعيد أنفاسى كلما تخيّلت أن عينيّ الملك ستقعان عليّ بعد لحظات أحسستُ أن كل ما فى من كاتبةٍ ومصريةٍ وإنسانةٍ يقف فى صفٍّ طويل من الانبهار، ينتظر الإذن بالدخول إلى حضرة العظمة لم يكن حوارًا مهنيًا فحسب، بل رحلة وجدانية تُعيد صياغة علاقتى بالزمن وبالكتابة وبمصر نفسه ولم يكن لقاءً صحفيًا يُسجل على شريطٍ ثم يُنسى، بل موعدًا مع الخلود، مع حجرٍ نطق وتاريخٍ ما زال يتنفس. فقد كنتُ على موعد أُحاور فيه الملك رمسيس الثانى، سيد المجد ومالك الزمان، الذى ما زال يحكم من عرشه الحجرى رغم مرور آلاف السنين.. فى تلك الليلة، لم تعرف عيناى النوم كنت أشعر بأن الزمن ينكمش حولى، كنت أتهيأ، لا، بل أتطهّر من ضجيج العصر، لأكون جديرةً بالدخول إلى بهو الملوك، حيث يقف رمسيس الثانى شامخًا، لا كتمثال، بل كإرادةٍ ناطقةٍ بالخلود، قضيت الليل أطالع النقوش والصور، وأتأمل الملامح التى تحدّت الفناء، أرتب أوراقى بعنايةٍ، وأستحضر فى مخيلتى وجوه الملوك، وفى قلبى ارتعاشةٌ خفيفة، وفى عقلى سؤالٌ يطرق بإلحاح: كيف أُحاور من نقش اسمه على المسلات، وخلّد انتصاراته على جدران المعابد؟ كيف أسأل من جعل من الحجر قصيدة، ومن الحرب معاهدة سلام، ومن الحب تمثالًا؟ اقرأ أيضًا | حضور ملكي ودولي رفيع المستوى.. تفاصيل افتتاح المتحف المصري الكبير خرجتُ من بيتى كمن يسير إلى معبدٍ لا إلى متحف، كل خطوة كانت صلاة، وكل نفسٍ استعدادًا. كنتُ أردد فى سرى: «ليكن لقائى به حوارًا بين من يبحث عن معنى الخلود، ومن أرسى مجد مصر على صخر الأبدية، وحين اقتربتُ من بوابة المتحف المصرى الكبير، شعرت بأننى لا أدخل مكانًا، بل أدخل زمنًا آخر، زمنٌ تُضاء فيه المسلات من أشعة الشمس، وتتعانق فيه أسماء مصر على الرخام الأسود، زمنٌ لا يُقاس بالساعات، بل بالخلود. كانت الأضواء تنحنى بخشوعٍ على وجه الملك رمسيس الثانى، كأنه خرج للتو من قلب الأبدية، بملامحٍ تنبض بالخلود، وعينين تحملان وهج الحكمة وسكون الأسرار، وفجأة.. خُيِّل إليّ أن الصمت تغيّر. كأن البهو تنفّس، والهواء أصبح أثقل قليلًا. حينها، سمعت صوته عميقًا كنبض الأرض، رنانًا كصدى النحاس فى جوف المعابد القديمة، هنا فقط أدركت أن هذا اللقاء ليس تخيّلًا، بل استدعاء لزمنٍ لم يبرح مكانه، وأن رمسيس الثانى ما زال ينتظر من يحاوره باسم مصر. اقتربتُ بخطواتٍ وئيدة، أحمل شغف الإنسان الذى جاء ليحاور الخلود. هنا، بدأ الحوار، لا بين صحفية وملك عظيم فحسب، بل بين عصرين: عصرٍ كتب التاريخ على جدران المعابد، وعصرٍ يكتب الحروف على شاشات الضوء. وحين تجسّد الملك أمامى، فى وقفته المهيبة، أدركتُ أننى أمام لقاءٍ يحدّث الروح لا القلم، وأننى أكتب هذه المرة بحبرٍ من رهبةٍ وإجلالٍ، لا من حبرٍ على الورق. تكريم يليق بالملوك اقتربتُ منه فى خشوعٍ ورفعتُ بصرى إلى تلك العينين اللتين فيهما بريق الحياة، وقلتُ: مولاى.. هل ينام الملوك فى الحجر؟ أم أن أرواحهم تظلّ تحرس الأرض التى حكموها؟ أجاب بنبرةٍ تجمع بين الحكمة والخلود: نحن لا ننام يا ابنة الحاضر، أجسادنا استقرت فى الصخر، لكن أرواحنا تسكن كل حجرٍ ووادٍ ونهرٍ فى هذه الأرض. من يظن أننا رحلنا، لم يعرف بعد معنى البقاء والخلود، إن الأبدية ليست وعدًا يا ابنتى، بل عهدٌ يبدأ من قلب هذا التراب وينتهى فى السماء». جلالة الملك لو سمحتم لى بسؤال من القلب: ماذا يعنى لكم ذلك الصرح الذى يُعدُّ درة تاج المتاحف، وأعظم حدث ثقافى وحضارى فى القرن الحادى والعشرين؟ ابتسم الملك وقال بصوتٍ واثقٍ مهيب: المتحف المصرى الكبير، يا صاحبة القلم، ليس جدرانًا من الحجر، بل نبض من الزمن، تنفّس فيه مجدى من جديد. هناك رأيت أبنائى من الملوك، وأحفادى من بناة الحضارة، يصطفّون كأنهم عادوا إلى الحياة. إن مصر لم تُكرّم ملوكها فحسب، بل كرّمت نفسها. فالمُلك زائل، لكن الخلود لمصر باقٍ هذا المتحف ليس مجرد بيتٍ للآثار، بل وثيقة عشقٍ بين مصر وتاريخها، بين الحجر والروح، بين المجد والذاكرة. أُحيى كل من شارك فى هذا الصرح، لأنه لم يٌشيد متحفًا، بل أعاد لمصر هيبتها أمام العالم. جلالتك حين تصعد الدرج الأعظم، وتطلّ من علٍ لترى أهرامات أجدادك شامخة كما كانت منذ آلاف السنين، كيف تشعر؟ - سكنت ملامحه كأنما استعاد صدى خطواتٍ قديمة فوق الرمال، ثم قال: حين تصعد روحى ذلك الدرج، أشعر كأن الزمان يعود بى إلى مطلع النور الأول، تلك الأهرامات ليست حجارة صامتة، بل نَبضُ أجدادى الذين علّمونى أن الملك لا يموت، بل يتحوّل إلى فكرة تُحكم إلى الأبد. كل درجةٍ على هذا السلم هى خطوةٌ نحو الذاكرة، وكل نظرةٍ نحو الأهرام هى حوارٌ بين الماضى والحاضر أشعر بالفخر لأن أبناء مصر ما زالوا يعرفون طريق الصعود، لا الهبوط. صعدتُ من بين تماثيلى ورأيتُ أهرامات أجدادى تلوّح لى كمن يقول: ما زالت مصر هنا كما كانت، وكما ستبقى». الأسطورة والحقيقة بين ما كتبه التاريخ، وما نسجته الأساطير، تتبدى صورتك فى عيون البشر، الملك الإله، المحارب الذى لا يُقهر، والعاشق الذى جعل من الحب معبدًا. من هو رمسيس الثانى؟ ابتسم الملك، كمن يبتسم للزمن نفسه، وقال بصوتٍ يفيض كبرياءً: الأسطورة يا ابنتى، ليست كذبة، بل هى الحقيقة وقد لبست ثوب الخلود التاريخ يكتب ما يراه، أما الأسطورة فتكتب ما تشعر به القلوب. فى التاريخ أنا ملكٌ قاد المعارك، وبنى المعابد، ووقّع معاهدات السلام. لكن فى الأسطورة، أنا ظلّ الأبد حين يسير على الأرض. الأسطورة يا صغيرتى ليست ما نختلقه، بل ما نؤمن به حتى يُصبح حقيقة. ولولا أنى صرت أسطورة، ما كنتِ لتجلسى أمامى اليوم بعد آلاف السنين، تسأليننى عن نفسى». عُدتَ اليوم إلى عرشك، بعد رحلةٍ طويلةٍ بدأت من ميت رهينة إلى ميدان مزدحمٍ بمدينةٍ لا تنام، كيف ترى هذا المكان الذى احتواك من جديد؟ - ابتسمت ملامحه وقال: حين انتزعونى من ميت رهينة، كنتُ أعلم أن مكانى الأخير لن يكون فى زحام المدينة، بل فى موطن يليق بتاريخ النور. وحين دخلت إلى المتحف المصرى الكبير، أدركت أن مصر الحديثة لا تنسى أبناءها، وأننى ما زلت أُتوج كل يوم بحبها، لم تكتفِ بتخليدى فى ذاكرة التاريخ، بل أعادتنى إلى عرشى بين الملوك والكهنة، أسمع صدى خطواتكم فتملأ قلبى فخرًا. ما تغيّر فى مصر إلا الملامح، أما العظمة، فهى تسكن فى جوهرها منذ الأزل. مصر تصنع مجدها لو قدّرت لك يا مولاى أن تنظر اليوم إلى مصر الحديثة من علياء الخلود، فماذا تقول؟ ساد صمتٌ للحظة، كأن الزمن يتوقف ليفسح المجال لكلماته، ثم قال بصوتٍ هادئ، مصر يا ابنتى، لا تتبدل أرواحها، وإن تغيّرت وجوهها، أنظر إليها اليوم فأرى تعب السنين على ملامحها، لكنى أرى أيضًا عنادًا يشبه عنادى، وصبرًا يذكّرنى بأمى «إيزيس». أبناؤها يختلفون ويتجادلون، لكن حين تُهددها العتمة، يلتفون حولها كما كانت الجدران تحمى المعبد. أرى من يهاجر بحثًا عن الرزق، ومن يقف فى طوابير الأمل، ومن يحمل الحلم على كتفيه فى صمت، هؤلاء هم جنودى الجدد، لا يحملون السيوف، بل يحملون الإرادة. مصر ما زالت تصنع مجدها، ولكن بأدوات جديدة، وبمعارك لا تُرى ما زالت أمّ الملوك والدهور لقد رأيتُها يومًا تُقيم المعابد من الرمال، وها أنا أراها اليوم تُقيم الحضارة من الضوء. أنتم لستم أبناء الماضى، أنتم امتداد له. حافظوا على الأرض كما حافظنا، وابنوا كما بنينا، واكتبوا أسماءكم فى سجل الخلود كما كتبنا نحن أسماءنا على الصخر. فمن يُكرم تاريخه، يضمن لمستقبله تاجًا لا يسقط. جلالة الملك، حين أقف أمام معابدك الشامخة، أشعر بأنك كتبتَ سيرة الخلود. هل كان الخلود هو هدفك الأسمى؟ ابتسم الملك وقال: نحن يا ابنتى لم نرَ الموت نهاية، بل عودة إلى النور الأول. فى عقيدتنا كان الجسد بيتًا للروح، والروح لا تموت، بل تعود فى كل فجرٍ مع قرص الشمس لتتحد بالنور الأبدى، من يولد ملكًا فى مصر، يُولد ومعه عهدٌ مع الزمن أن يترك بصمة لا تُمحى، كنتُ أعلم أن الجسد سيعود إلى التراب، لكن الأثر، هو ما يتحدى الغياب. الخلود عندنا لم يكن فى القبور، بل فيما نصنعه للناس، فى النيل الذى لا يجف، وفى المعابد التى تروى حكايتنا كل فجر، الخلود أن تنحنى العصور احترامًا لاسمٍ لم يغيبه الزمن. رحلة الملك إلى باريس قلتُ له بعد أن أضاء وجهه بوهج الذكريات: يا جلالة الملك، سافرت يومًا إلى بلادٍ بعيدة، لتُجرى الفحوص والتحاليل. كيف ترى هذا المشهد؟ - ابتسم وقال بصوتٍ عميقٍ: ما أغرب الإنسان حين يظن أنه يكتشف ما عرفناه من قبل آلاف السنين! دعوهم يدرسوننى، فكل خليةٍ من لحمى تحمل سرّ الخلود الذى علّمناه للبشرية ما ظنّه الناس جسدًا جامدًا، إنما هو كتابٌ مفتوح من أسرار الآلهة. وكل تحليلٍ علمى هو قراءةٌ جديدة فى سفر الخلود الذى كتبناه على ضفاف النيل أن تُسافر مومياء ملكٍ فى طائرةٍ تحمل اسمه، فذلك دليل أن الحضارة لا تُسجن فى التوابيت، بل تُحلّق كلما أراد العلم أن يُنصت للتاريخ سفرى شهادة جديدة على أن مصر ما زالت تُدهش العالم بعد آلاف السنين. عندما سافرت إلى باريس عام 1976 خرجت بجواز سفر مصرى وحظيت بتكريمٍ رسمى يليق بملكٍ لم يغادر عرشه. كيف كان شعورك وأنت تغادر أرضك؟ - ابتسم الملك، وقال: حين وُضع اسمى على جواز السفر، شعرتُ بأن التاريخ قد انحنى احترامًا، كأن الأرض أرادت أن تُذكّر العالم بأن أبناءها لا يغادرونها إلا بصفة الملوك، وكان الجواز الذى حمل اسمى اعترافًا من أحفادى بأن الدم الذى جرى فى عروقى ما زال يجرى فيهم، وأن نيلنا ما زال يجرى فى دمى كما يجرى فيكم. إننى لم أكن أغادر وطنى، يا ابنة الحبر والورق، ذهبت سفيرًا للخلود، لأُعيد إلى العالم ذاكرته، ولم أشعر بالغربة، لأن مصر كانت تسكن معى فى كل ذرةٍ من الكتان الذى التفّ حولى، وفى كل يدٍ رفعت علمها لتودّعنى. سافرت وحملت معى رسالة خالدة: أن مصر وحدها، من بين أمم الأرض، لا تدفن ملوكها، بل تُبقيهم شهودًا على سرّ الخلود. وهل خفقت روحك بفرحة العائد وسمعتَ تحية النيل وهو يهمس لك: «مرحبًا بك يا ابن الشمس؟ - حين رأيت رمال الجيزة تلوّح لى، والنيل يفتح ذراعيه كأبٍ يستقبل ابنه الضالّ، شعرتُ بأن قلبى ينبض من جديد، وعندما لامست أضواء القاهرة وجهى، أدركت أن الروح لا تعرف المنفى، وأن مصر يا صغيرتى لا تُغادر من يُحبها، بل تظل تسكنه مهما ابتعد، شعرتُ بأنفاس الوطن تتسلل إليّ من جديد. لم تكن عودتى مجرد رحلة مومياء، بل عودة روحٍ إلى ترابها الأول. لقد حيّانى المصريون كما يحيّون ملكًا عاد من معركةٍ قديمةٍ منتصرًا، وكانت تلك التحية أعظم من أى موكب نصر شهدته من قبل. على جدران الأممالمتحدة كل الملوك خاضوا الحروب، لكن القليل منهم كتبوا السلام. قُدتَ جيوشك فى معركة قادش، المحفوظة فوق جدران المعابد. لكن ما يثير الدهشة أن المنتصر فيها كان من مدّ يده بعدها ليوقّع أول معاهدة سلام عرفها التاريخ. كيف رآك العالم آنذاك؟ رفع الملك رأسه كمن يسمع وقع طبول بعيدة ثم قال: قادش كانت نارًا وضياءً معًا، فيها اختُبرت قوتى كقائد، وحكمتى كإنسان. كنتُ يومها لا أقاتل فقط لأجل الأرض، بل لأجل الكبرياء لكن حين رأيت الدماء تختلط بترابٍ طاهرٍ خُلق للحياة، أدركتُ أن النصر لا يكتمل إلا إذا عمّر الأرض بعد الحرب سلام. وجاءت المعاهدة لتكون أول اتفاقٍ سلام بين خصمين أدركا أن السلام أرفع من الحرب. لقد أدركتُ يومها أن النصر الحقيقى فى أن نمنح الحياة فرصة ثانية. وحين جلست مع حاكم الحيثيين لأوقع معاهدة السلام، شعرت بأنى أرتقى. لقد علّمتنى قادش أن السيف قد يفتح الأبواب، لكنه لا يُبقيها مفتوحة إلا بالسلام وها هى المعاهدة، ما زالت محفوظة على جدران معبد الكرنك ونسخة منها تُزيّن جدران الأممالمتحدة فى عالمكم الحديث، كأنها تقول للعالم كل يوم: إن مصر كانت أول من علّم البشرية أن القوة الحقيقية ليست فى القتال، بل فى أن تضع السيف جانبًا حين يحين وقت الحكمة. تلك هى رسالتى: «أن يظل السلام تاج الملوك، لا سيفهم». من أجلها تُشرق الشمس دعنى أسألك عن «نفرتارى» تلك المرأة التى خلدتَ اسمها كما لم تُخلّد امرأة فى التاريخ. هل كانت مجرد زوجة، أم كانت جزءًا من روحك الملكية؟ - لمعت عيناه ببريقٍ خافت وهمس قائلًا: نفرتارى كانت النصف الذى به اكتملت شمس حياتى كانت النور فى محراب الليل، والحكمة حين يضيع الصوت. أقمتُ لها مقامًا لا تفنى روحه، لأن الجمال إذا أحبّ، صار حجرًا خالدًا فى معبد الزمن لذلك نحتُّ لها معبدًا يوازى معبدى، لأن العظمة لا تنقص إذا شاركناها مع من نحب، بل تزداد بهاءً. كنت أقول لها: «لن يطويكِ الموت ما دام اسمى يُذكر، ولن يطوينى النسيان ما دامت صورتك تضىء المعابد». لقد أحببتُها لأنها تُشبه مصر، تُشبه الفجر فى هدوئه والنيل فى عطائه، والعطر الذى لا يزول أثره فى أروقة الزمن، كلاهما أرضٌ وسماءٌ وجمالٌ لا يفنى، وما زلتُ أراها فى كل فجرٍ يشرق على النيل، وفى كل زهرة لوتس تُفتح على ضوء الأبدية حين شيدتُ لها معبدها فى أبو سمبل، كنتُ أنحتُ قلبى فى الصخر، ليبقى شاهدًا على أن الحب فى مصر القديمة كان طقسًا مقدسًا، لا يقل هيبة عن طقوس الآلهة. وكتبتُ على جدران معبدها: «من أجلها تُشرق الشمس. تاج البيت وركيزة الدولة مولاى.. وأنت الذى خلّدت المرأة على جدران المعابد، كيف ترى مكانة المرأة المصرية اليوم؟ نظر الملك كمن يعجب من دهشة السؤال: يا ابنتى، فى أى عصرٍ تُكرَّم فيه المرأة تُكرَّم الحياة نفسها فلم تكن المرأة ظلًّا للرجل فى زمانى، بل كانت النور الذى يضبط ميزان الحياة تُدير شئون البيت كما تُدير شئون الدولة، وكان الملوك يُجلّونها لا لأنها أنثى، بل لأنها أصل الخلق واستمرار النسل ونبض الحكمة. المرأة كانت تاج البيت وركيزة الدولة شاركت الرجل فى الرأى والمسئولية، ووقفت إلى جواره فى الحروب والمجالس، بل كانت بعضهن يُستشرن فى القرارات الكبرى، وبعضهن كاتبات فى دواوين الدولة، يخططن الأوامر الملكية ويسجلن الضرائب، كانت تملك الأرض وتبيعها، وتورّث أبناءها، وتُدرّس فى بيت الحياة، حيث يُصنع العلم وتُصان الحكمة.. وفى القصر، كانت زوجتى «نفرتاري» شريكتى فى الحكم والهيبة، كتبتُ اسمها إلى جوارى لأقول للعالم: لا يُكتب المجد إلا بيدين، يد الملك ويد المرأة. واليوم، وأنا أحاور امرأة تحمل القلم لا الصولجان، أدرك أن المرأة لم تفقد مكانتها، بل استبدلت المعبد بالمنبر، والنقش بالكلمة، إننى أرى أنها تخوض معركة جديدة، بالفكر والعمل والمعرفة. لقد استعادت روح جداتها، لكن لابد أن تدرك أن المجد لا يُمنح، بل يُنتزع بالإصرار والعلم والكرامة. أضواء وظلال نُقلت مومياؤك إلى متحف الحضارة فى موكب ملكى مهيب أبهر العالم، كيف استقبلت هذا المشهد؟ بدت على ملامحه لمحة من فخرٍ وقال: ذلك اليوم لم يكن نقلاً لجسدى، بل بعثًا لروحى. رأيت أبناء النيل يصفّقون، والنساء يزغردن كما فى مواكب النصر القديمة. شعرت بأنى أعود لا كرمادٍ فى تابوتٍ ذهبى، بل كرمزٍ لحضارةٍ استعادت وعيها بنفسها. حين تحرّكت العجلات الملكية تحت أنغام الموسيقى الفرعونية، رأيت فى عيون المصريين شرارة الكبرياء التى كنت أزرعها فيهم منذ آلاف السنين سمعت الهتاف لا ينادى ملكًا ميتًا، بل وطنًا حيًّا. مولاى أشعر بأن الكلمة وحدها منحتنا القدرة على استدعائك من عمق التاريخ، فهل ما نكتبه عنك اليوم هو امتداد لخلودك؟ أجاب الملك رمسيس بصوتٍ هادئ: الموت يا ابنتى، لا يُهزم بالسيف، بل بالذاكرة. الخلود ليس أن تظلّ فى الجسد، بل أن تظلّ فى الوعى. وما تفعلونه أنتم بالكلمة اليوم، هو ما كنّا نفعله نحن بالنقش والهندسة والنور. أنتم تكتبون لتتحدّوا الغياب، ونحن كنّا نبنى لنهزم النسيان. كل حرفٍ تكتبينه عنى يا ابنة القلم والورقة، هو حجرة جديدة تُضاف إلى معبدى. وكل قارئٍ ينطق اسمى، هو كاهن يعيد إليّ الحياة لحظة أخرى. نحن ملوكُ الماضى ندرك أن القلم يصنع الخلود. فأنتم إذًا ورثة الخلود، وإن لم تضعوا التاج فوق رؤوسكم. صدى صلواتٍ قديمة جلالتك.. ربما لاحظتَ أن من تحاورك اليوم امرأة من زمنٍ آخر جاءت لتستمع إليك وتكتب عنك. هل كنتَ تفضل أن يجرى هذا الحوار رجلٌ؟ ابتسم الملك رمسيس، كمن يتأمل ملامحى وقال: لم يُدهشنى أن تكونى أنتِ من تكتبين عنى يا ابنة الحاضر، فالدهشة ليست من طبع الملوك، ولا من طبع المصريين الذين آمنوا منذ البدء بأن الكلمة لا جنس لها، بل روحها هى التى تمنحها القوة. فلا فرق عندى بين أن يكون المحاور رجلًا أو امرأة، ما دام صادقًا فى بحثه عن المعنى، ولعلك لا تدرين يا ابنتى أن الكتابة عندنا لم تكن حرفة، بل صلاة. وأنتِ هنا، بعد آلاف السنين، تُعيدين إليّ صلاتى القديمة. فى زمنى، كانت الكلمة عندنا لا تعرف التفرقة بين يدٍ ناعمة وأخرى خشنة، وأنتِ جئتِ بروحٍ حرة، تسألين كما تسأل الحياة عن معناها، كتابتكِ يا ابنتى ليست حبرًا على ورق، بل صدى جديدٌ لصلواتٍ قديمة كانت تُتلى فى المعابد. لذا ثمة شىء فى حضوركِ يشبه «ماعت» إلهة الحق والميزان، كأنكِ جئتِ لتعيدى التوازن بين زمانين: زمنٌ كنتُ فيه ملكًا يُحكم بالحجر، وزمنٌ صرتُ فيه ذاكرة تُحكم بالكلمة». قبل أن أغادر بلاطك يا مولاى، ماذا تقول لأبناء مصر؟ - أقول لهم احفظوا ما شيّدناه، وواصلوا ما بدأناه. لا تنسوا أن مصر لا تُقاس بطول نيلها، بل بعظمة من يصونون مجدها. كل حجرٍ فى هذا المتحف يحمل وصية: أن تظلوا أوفياء للأرض التى علمت العالم معنى الخلود وأنا هنا لأُذكِّركم أن الملك لا يموت، وأن مصر لا تُهزم. انتهى الحديث، وأطرق الملك برأسه يودّعنى، نظرتُ إلى وجهه وقلتُ فى نفسى: كم من الملوك مرّوا، لكن القلة فقط من استطاعوا أن يتركوا لأنفسهم ظلالًا من ضوءٍ لا ينطفئ.