انتخاب الديمقراطي زهران ممداني عمدة لمدينة نيويورك، بما تحمله من أهمية كبيرة، يمثل صفعة كبيرة للرئيس دونالد ترامب، ولحزبه الجمهوري، في لحظة فارقة، تمثل استباقا لأحداث أكثر أهمية في الداخل الأمريكي، أبرزها انتخابات التجديد النصفي المقررة في نوفمبر 2026، وانتخابات الرئاسة في 2028، والتي وإن لم ينافس عليها الرئيس الحالي، باعتباره نال فترتين رئاسيتين، فإن المرشح المنتظر عن حزبه، سيكون في الغالب من نفس مدرسته، ذات التوجه الشعبوي، وهو ما يمثل، نظريا، تهديدا صريحا للتيار الشعبوي الذي تمثله الإدارة الحالية، وشعبيتها، خاصة وأنه خلال 10 أشهر تقريبا لم تتحقق الكثير من الوعود الانتخابية التي أطلقها الرئيس، بل ودخلت البلاد في أطول فترة إغلاق حكومي، وهو ما يعني أن ثمة أوضاع اقتصادية صعبة تواجهها الولاياتالمتحدة، وربما ينتظرها الأصعب حال عدم الوصول إلى توافقات، من شأنها تقديم حلول للأزمة الراهنة. والحديث عن التوافق بين الحزبين المتصارعين في الولاياتالمتحدة، يمثل خيارا بعيدا، في نظر الكثير من المتابعين للسياسة الأمريكية، فالرئيس يحمل خطابا عدائيا صريحا تجاه خصومه، والخصوم يبادلونه اتهاما باتهام، إلا أن الواقع ربما يبدو مختلفا، فالصراع يقتصر في حقيقته على مقاعد السلطة، وهو ما يبدو في انتخاب ممداني، والذي لا يختلف في شعبويته عن منهج ترامب، وهو ما أوصله في النهاية إلى مقعد السلطة الأول في الولاية الأمريكية الأكبر، ليكون بمثابة كابوس على قلب البيت الأبيض، في لحظة سياسية غاية في الحرج. شعبوية ممداني، تمثل خطا ليس بالجديد تماما على الحزب الديمقراطي، فهو يمثل خليطا بين أيديولوجية يسارية تبناها بيرني ساندرز، الذي حظى بشعبية كبيرة في الأوساط الديمقراطية، من جانب، وخطاب الرئيس ترامب، ذو الطبيعة الشعبوية، من جانب آخر، ناهيك عن كونه صورة جديدة لتجربة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذي جاء من أصول أفريقية ذات جذور مسلمة، من جانب ثالث، مما يضفي الكثير من الزخم، ليس فقط على تجربته في إدارة ولاية كبيرة وذات شأن، وإنما أيضا يسلط الضوء على قدرة الديمقراطيين على العودة، بعد هزيمتهم المدوية، على مستوى الرئاسة والكونجرس في الانتخابات الأخيرة التي عقدت قبل نحو عام واحد. وبالنظر إلى المراحل الثلاثة الأخيرة في التاريخ الأمريكي، والتي بدأت من وصول أوباما إلى عرش البيت الأبيض في 2009، نجد أنها ارتبطت بحالة من الغليان في الداخل، فإدارة جورج بوش الابن ورطت واشنطن في حروبها في أفغانستان والعراق، ثم اختتم حقبته بالأزمة المالية العالمية، والتي ضربت الاقتصاد العالمي في مقتل، فكان خطاب أوباما، الذي امتاز بنكهة شعبوية أنيقة، بمثابة ورقة اعتماده في الرئاسة، فمكث في البيت الأبيض لمدتين، إلا أنه لم يتمكن من الانتصار لخلف من نفس الحزب، بسبب تورطه في حروب أخرى، أبرزها الحرب على الإرهاب في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى عجزه عن العودة بالاقتصاد إلى أوضاعه الطبيعية، ناهيك عن ترشيح هيلاري كلينتون وهي وجه تقليدي في السياسة الأمريكية لم يروق للشارع الباحث عن حلول خارج الصندوق، فجاء الرئيس ترامب بخطاب شعبوي حاد، تمكن من خلاله من الوصول إلى الرئاسة رغم انعدام خبرته السياسية، ولكن عصف به وباء كورونا، فلم يمكث سوى فترة واحدة، فكان البديل هو العودة إلى التقليدية الأمريكية، في صورة بايدن، والذي لم يفلح هو الآخر في تقديم حلول جذرية فكانت العودة إلى ترامب في ولاية جديدة. والملاحظة الأبرز في المراحل السابقة تتجلى في بزوغ ما يمكننا تسميته ب"رؤساء الولاية الواحدة"، والتي بدأت منذ عام 2016، عبر الرئيس ترامب، مرورا ببايدن، ثم عودة ترامب مجددا، والذي من المفترض أن يغادر البيت الأبيض بعد انتهاء ولايته بحكم الدستور، وهو ما يعكس ارتباكا غير مسبوق منذ عقود، فمنذ صعود رونالد ريجان في عام 1981، إلى البيت الأبيض، وحتى ولاية ترامب الأولى، تولي جميع الرؤساء الأمريكيين ولايتين ماعدا جورج بوش الأب، والذي فاز بولاية واحدة وخسر الثانية أمام غريمه بيل كلينتون. إلا أن الصعود السياسي لممداني وغيره من الديمقراطيين الذين فازوا بانتخابات الولايات، يمثل تطورا نوعيا في السياسة الأمريكية، فهو بمثابة استباق عقابي للإدارة الحالية، فالأمريكيون، حيث لم ينتظر المواطنون نهاية ولاية الرئيس أو حتى انتخابات التجديد النصفي، حتى يخرجوا عليه، كما جرت العادة في السنوات الأخيرة، خاصة إذا ما نظرنا إلى حجم الدعاية المضادة لهم من قبل السلطة الحاكمة في البيت الأبيض، وهو ما يعكس تراجعا كبيرا في الشعبية في غضون شهور لم تصل بعد إلى العام الأول من ولاية ترامب الثانية، وتحذير شديد اللهجة قبل مناسبات قادمة أقربها انتخابات التجديد النصفي المقبلة، والتي قد يستحوذ عليها الديمقراطيون. وفي الواقع يمثل صعود ممداني امتدادا للعديد من التحولات التي تشهدها الولاياتالمتحدة، في إطار التوجه نحو عقليات جديدة لقيادة السفينة، على خلفية أزمات، دامت لعقود دون حلول من قبل الساسة التقليديين، وهو السبب نفسه الذي صعد بالرئيس ترامب، إلى البيت الأبيض رغم انعدام خبرته السياسية، قبل نحو 9 سنوات، ولكن يبقى خطابه ذو النزعة اليمينية بمثابة شوكة في ظهر الكثير من الفئات داخل المجتمع الأمريكي، بينما يمثل نجاح ممداني في الوقت نفسه تغييرا ملموسا في توجهات الديمقراطيين الذين أصروا على تدوير الوجوه في مختلف المناصب، خلال المناسبات الانتخابية الأخيرة، وهو ما بدا في ترشيح هيلاري كلينتون، والتي مكثت في البيت الأبيض كسيدة أولى لثماني سنوات ثم وزيرة للخارجية في عهد أوباما، ثم الدفع ببايدن، والذي شغل منصب نائب الرئيس من قبل، ثم كامالا هاريس، والتي حصلت على المنصب ذاته في حقبة بايدن. السطور سالفة الذكر تكشف حقيقة مفادها أن المعيار لدى الناخب الأمريكي لم يعد أيديولوجيا، وإنما بات شعبويا، وهو ما تتماهى فيه الأحزاب في اللحظة الراهنة من الناحية الخطابية، ولكن يبقى الرهان على "الشعبوية العملية"، عبر الانحياز لطبقات الشعب المختلفة، وعلى رأسها الطبقة الوسطى التي تتآكل، واحترام حقوق جميع الفئات، سواء أصحاب البشرات الملونة أو المهاجرين أو الأقليات الدينية، وهو ما يمثل جوهر رسالة المواطن عبر صعود ممداني، ومن قبله أوباما وغيرهم، إلى مقاعد الولايات أو الكونجرس، وصولا إلى عرش البيت الأبيض. وفي ظل هذا التماهي الشعبوي بين الحزبين، تتشكل في الخلفية ملامح تحول أوسع داخل المجتمع الأمريكي، يفتح الباب أمام صعود مسار ثالث، ليس بالضرورة حزبا تقليديا، بل إطارا سياسيا جديدا يتجاوز الانقسامات الأيديولوجية القديمة، فالجيل الجديد لا ينظر إلى السياسة بمنطق يمين ويسار، بقدر ما يقيمها من زاوية قدرتها على معالجة أزماته المعيشية وصون هويته المتنوعة. وهنا يمكننا القول بأن الحاجة أصبحت ملحة لتحويل الأيديولوجيا من منهج فكري أو عقيدة تعتمد عليها الأحزاب في تقديم نفسها، إلى مجرد أداة، وتتحول السياسة إلى ممارسة مرنة تخدم المصلحة الوطنية قبل أي اعتبار آخر، وإذا استمر هذا المسار، فإن الولاياتالمتحدة قد تكون على أعتاب إعادة تعريف ذاتها، لا بوصفها بوتقة تنصهر فيها الهويات، بل منصة تتعايش فيها وتتنافس دون أن تتحول إلى تهديد للدولة أو المجتمع، وهو ما يعد بمثابة الإدارة المثالية للتوافقات الموجودة في قلب الصراعات.