على امتداد آلاف السنين، ظلّت مصر مسرحاً تتقاطع فيه الرسالات والملل والحضارات، ورغم الصورة الشائعة في كتابات غربية قديمة ترى المصريين القدماء شعباً "وثنياً" منفصلاً عن فكرة الإله الواحد، فإن سجل الأنبياء الذين عاشوا على أرضها يفتح باباً لقراءة أعمق، تنقض الكثير من هذه التصورات الجاهزة، فمصر ليست مجرد موطن حضارة حجرية صامتة، بل كانت فضاءً روحياً وتجريبياً واسعاً مرّ عليه نفر من أعظم الأنبياء والعارفين. تُجمع مصادر التراث، وتفيد إشارات في كتب التاريخ، إلى أن عدداً من الأنبياء عاشوا على أرض مصر أو مرّوا بها، وكان لهم فيها أثر روحي أو تاريخي مباشر. ومن أبرزهم: شيث بن آدم: تذكر الروايات أنه أقام في مصر ردحاً من الزمن، وأنه كان من أوائل من أعاد بناء نسق العبادة بعد آدم. إدريس: الذي يربطه أغلب المؤرخين بمدينة منف، ويذهب بعضهم إلى أنه هو نفسه "أوزير" الحكيم في الذاكرة المصرية القديمة، بما لها من رمزية للعدل والمعرفة. إبراهيم الخليل: دخل مصر في زمن المجاعة، وخرج منها ومعه روافد شكلت لاحقاً جزءاً من مسار رسالته. يوسف عليه السلام: قصته أكبر شهادة على أن مصر لم تكن أرضاً مغلقة أمام فكرة الإله الواحد، حكم يوسف، وبسط الإصلاح، وقاد الدولة في أصعب سنواتها. يعقوب وأبناؤه الاثنا عشر: أقاموا جميعاً في مصر بعد استقدام يوسف لوالده وإخوته. أيوب عليه السلام: تفيد روايات بأنه مرّ بمصر وأقام فيها فترة، وإن اختلفت الأقوال حول مدة مكوثه. ذو القرنين: تذكر بعض المصادر أنه زار مصر، وتعامل مع علمائها وملوكها. الخضر: تُروى له محطات في أرض النيل بوصفها إحدى بقاع الحكمة المتوارثة. لقمان الحكيم: وإن لم يكن نبياً باتفاق أغلب العلماء، إلا أن التراث يضعه في مصاف الحكماء الذين أقاموا في مصر أو خرجوا منها. هذا الحضور الكثيف لا يجعل مصر مجرد محطة جغرافية، بل عقدة تاريخية بين الوحي والإنسان. هل كان المصريون القدماء وثنيين؟ لطالما اتُّهم المصريون القدماء بعبادة الأوثان، لكن قراءة النقوش والمخطوطات تكشف صورة أكثر تركيباً، فالنقوش تتحدث عن إله أعلى خالق، يسمّى أحياناً: "آتون" "آمون" "الإله الواحد الذي لا يُرى" "خالق كل شيء" حتى قبل تجربة إخناتون، كانت هناك فكرة مركزية تقول إن الكائنات المقدسة ليست آلهة مستقلة، بل تجليات لقوة عليا، وهذا قريب مما نجده في بدايات الفكر الموحِّد. كما أن دخول الأنبياء أرض مصر، ووجود قبول اجتماعي لهم، يعني أن الوعي الديني لم يكن مغلقاً ولا مستسلمًا لجمود الأساطير، فلو كانت مصر غارقة في الوثنية الصلبة، لما استقر فيها يوسف نبيّاً ووزيراً، ولما وجد إبراهيم فيها ملاذاً، ولما عاش فيها إدريس أو شيث أو غيرهم. لماذا بقيت صورة "المصرية الوثنية" شائعة؟ السبب الأول هو أن القراءة الاستشراقية المبكرة اختزلت رموز المصريين في أصنام، دون فهم منظومتهم الفلسفية، والثاني أن الفكر الأوروبي في القرنين الثامن والتاسع عشر كان يسعى لخلق فجوة بين "الحضارة الغربية" و"حضارات الشرق" عبر تصوير الأولى بأنها وريثة التوحيد والعقل، والثانية وريثة الوثنية والخرافة. أما وثائق الحضارة نفسها، فتقول شيئاً آخر: شعب يعظّم الخالق، يقدّس العدل، ويؤمن بالحساب والميزان والآخرة، وهي مفاهيم تقترب كثيراً من روح الرسالات السماوية. وجود هذا العدد من الأنبياء والحكماء على أرض مصر لا يمكن أن يكون مصادفة تاريخية، فمصر كانت محور العالم القديم: مركز زراعة وعلم وتجارة وسلطة، وفي الوقت نفسه مكاناً يتقاطع فيه الروحي بالمدني. ولهذا ظلت قادرة على استقبال الرسالات، وعلى احتضان أهل النبوة، وعلى أن تكون جزءاً من مسار تاريخ الوحي. وفي النهاية، ليست القضية إثبات أن المصريين كانوا موحدين بشكل مطابق لرسالات الأنبياء، بل الاعتراف بأنهم لم يكونوا وثنيين بالصورة التي رُسمت لهم، وأن أرضهم كانت ولا تزال أرض معرفة، مرت بها أرجل الأنبياء كما مرت بها حضارات وسلالات.