في قلب مدينة طنطا المصرية، تتلألأ مآذن المسجد الأحمدي شاهدة على مسيرة وليٍّ صوفيٍّ جليل، جمع بين نقاء الروح وعمق الفكر وشجاعة الموقف، إنه السيد أحمد البدوي، أحد أعلام القرن السابع الهجرى، وصاحب الطريقة الأحمدية التي انتشرت في مصر والعالم الإسلامي، وظلت رمزًا للصفاء الروحي والرباط الديني في وجه الغزو والاضطراب. وُلد السيد أحمد البدوي عام 596 ه / 1199م في مدينة فاس المغربية، من أسرة شريفة النسب تعود جذورها إلى الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. عاشت أسرته في المغرب قرابة خمسة قرون بعد هجرتها من الحجاز في العصر الأموي، إثر اضطهاد الحجاج بن يوسف الثقفي للعلويين، واستقرت في فاس حيث ازدهرت بالعلم والتصوف. تزوّج جده الشريف إبراهيم من ابنة أحد سلاطين المغرب، وكان لذلك أثر في رفعة مكانة الأسرة بين علماء فاس وأوليائها. مع اضطراب الأوضاع في المغرب عقب قيام دولة الموحدين، واشتداد الخطر على الأشراف والعلويين، قرر والد السيد أحمد الهجرة بأسرته إلى المشرق. في عام 603 ه غادرت الأسرة فاس، ومرت بمصر التي كانت آنذاك تحت حكم الدولة الأيوبية، في طريقها إلى مكةالمكرمة لأداء فريضة الحج. استقرت الأسرة في مكة ست سنوات، حيث نشأ أحمد البدوي على حب العبادة والتقوى، حتى توفي والده وهو في الثالثة عشرة من عمره، فاختار طريق الزهد والانعزال عن الناس، مكرسًا وقته للعبادة والتأمل ودراسة علوم التصوف، متأثرًا بتعاليم الشيخ عبد القادر الجيلاني والإمام أحمد الرفاعي. وكان يضع لثامًا على وجهه اتباعًا لعادة أهل البادية من المغرب، ومن هنا لُقّب ب البدوي. بعد سنوات من العبادة والعزلة في مكة، شدّ السيد البدوي رحاله إلى العراق في نهاية الثلاثينيات من عمره، حيث أقام في الموصل، واشتهرت هناك قصته مع السيدة فاطمة بنت بري التي حاولت اختباره بجمالها، لكنها انقادت لاحقًا إلى طريق العبادة والزهد على نهجه. عاد بعدها إلى الحجاز، إلى أن رأى في المنام رؤيا متكررة يأمره فيها هاتف غيبي: "سر إلى طنطا، فإنك تقيم فيها وتربي رجالًا وأبطالًا." استجاب للرؤيا، وقدم إلى مصر في مطلع الأربعينيات من عمره، ونزل بمدينة طنطا، حيث نزل أولًا في دار الشيخ ركين الدين المعروف ب "ركين التاجي"، ثم انتقل إلى دار ابن شحيط شيخ الناحية بطنطا، وظل فيها حتى وفاته عام 675 ه. لم يكن أحمد البدوي متصوفًا معتزلًا عن قضايا أمته، بل كان أحد رموز الروح الوطنية في عصرٍ اشتعلت فيه الحروب الصليبية ضد مصر وبلاد الشام. اشتهر بين الناس بكراماته ومواقفه التي دعم بها الأسرى المسلمين العائدين من سجون الصليبيين، حتى شاع بين المصريين القول: "الله الله يا بدوي جاب اليسرى." إشارة إلى عودة الأسرى ببركة دعائه، ودوره الروحي في بث الأمل في نفوس المسلمين زمن الشدة. بعد وفاته، دفن السيد البدوي في داره بطنطا، وأقام أحد تلاميذه بجوار قبره خلوة صغيرة تحولت مع الزمن إلى زاوية تُعرف ب الزاوية الأحمدية. وفي عهد السلطان الأشرف قايتباي جُدد الضريح وبُنيت عليه قبة ومئذنة، ثم جاء علي بك الكبير في القرن الثامن عشر الميلادي (عام 1760م) فأقام المسجد الكبير الذي صار اليوم المسجد الأحمدي، أضخم مساجد طنطا وأحد أبرز المعالم الدينية في مصر. ينسب إليه تأسيس الطريقة البدوية التي تميزت برايتها الحمراء، وبالتزامها الصمت والزهد وخدمة المجتمع. وقد لُقب ب شيخ العرب والسطوحي، رمزًا لعزة الصوفية وكرامة أهل الإيمان في مواجهة المحن. ولا تزال مولدات السيد البدوي في طنطا تجمع مئات الآلاف من الزوار من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، احتفاءً بذكرى رجلٍ جمع بين العلم، والعبادة، والجهاد.