في مجموعتها القصصية الصادرة مطلع العام الجاري عن دار صفصافة، تُقِدم الكاتبة غادة كمال على تحديا إبداعيا تثبت جدارتها به عن استحقاق كامل، إذ يمكننا ملاحظة كم التنوع والثراء في الموضوعات المتناولة عبر بنى فنية ما بعد حداثية، وبنسق يجمع بين الواقعية السحرية والتشيؤ والغرائبية، إلا أن كل هذا الزخم في الموضوعات المطروحة عبر خمس قصص شديدة التفرد، لم يجبر اللغة على الوقوع في فخ التقعر أو الاستخدام المفرط للمصطلحات المعقدة، فكل ما تمت معالجته من رؤى وأفكار ومن تم تناولهم من شخوص، وعلى كل ما تحمله البنية من تجديد وجموح، لم تخضع اللغة لتجريب هائل، ولم يُحمّل السرد بزخرفات لغوية قد تُخل من الإيقاع، أو تبطئ من تدفقه. الملاحظ أيضًا أن احتفظت كل قصة بلغتها الخاصة بمفرداتها المفتاحية المميزة لها، وحتى على مستوى القصة الواحدة كقصتي ( صيف الجربوع الأخير)، و(الرجل الذي أكل الساعة)، نرصد تطور اللغة المسرودة على امتداد النص من البداية، إلى تصاعد الأحداث، مروراً بالذروة، حتى النهاية، وتكرر هذا الاستخدام الواعي للعبة التصاعدية باللغة في قصة (ذاكرة اليوسفي) بنسق أكثر تكثيفًا ولكنه بدأ من الثلث الثاني للنص. (الميتا حلم) وذهنية القارئ المتورط في الأحداث تمتاز تقنية الميتا حلم عن التقنية التقليدية المعروفة بالميتا سرد، أو التقنية الشهيرة الحلم داخل الحلم المستخدمة في فيلم (بداية) لليوناردو دي كابريو، بأنها أقوى تركيبًا وأهم من الناحية الإثرائية والتأثيرية على الكاتب والقارئ في آن واحد، إذ تعتمد على الشخصية الراوية والتي بالضرورة تعي أنها تحلم وتعيد تشكيل الواقع المحكي عبر السرد ذاته، ومن أبرز الأمثلة على هذا النوع من الميتا حلم قصص (الآخر) و(حديقة المسالك المتشعبة) لبورخيس، و(وقائع طائر الزنبرك) لهاروكي موراكامي، ومتون الأهرام ودفاتر التكوين لجمال الغيطاني. هناك نوع آخر من الميتا حلم يعد أكثر اشتباكاً مع القاريء والحلم والنص ويتجاوز السارد أو الذات الكاتبة ليتسلل إلى المتن الإبداعي ذاته، وهو نوع يجعل القارئ يشك في كينونته وسط الحلم أم النص أو الواقع، وتعد قصة كل من ( المحاكمة) و( التحول) لكافكا مثالًا ناصعًا لهذا النوع من الميتا حلم، جنباً إلى جنب مع( أحلام فترة النقاهة) لنجيب محفوظ و"نزيف الحجر" لإبراهيم الكوني. تحلت كاتبة المجموعة بشجاعة محسوبة وبجرأة متزنة عندما أطلقت العنان لقدراتها ككاتبة وفنانة تشكيلية سيريالية، فأنتجت قصصًا تجمع بين الميتا حلم المعتمدة على الذات الساردة والأخرى المتسللة إلى وعي القارئ والتي تعيد الاعتبار للقارئ بصفته ليس متفرجاً بل شريكاً أصيلاً في الأحداث، تأرجحت الكاتبة بين التقنتين بخفة كائناتها الخرافية وبريشة تشكيلية تدرك كيفية الاستخدام الأمثل للتقنيات المتشابكة داخل نصوص قصصية وليست قصصية بالشكل المتعارف عليه، فجاءت قصة ( شبح مدينة الميلاتونين) كنموذج واعٍ للدمج بين الواقعي والمتخيل، الحلمي والحقيقي، المُشيد والمُشيد عليه، تتقاطع مصائر أبطال واقعيين مع أبطال متخيلين على امتداد النص حتى تأتي النهاية لتعيد بناء سردية غير التي شيدها القاريء في خياله. تتتالى الأحداث وتتكدس مصائر أبطال القصص وتختلط وقائع حيواتهم في مزيج سحري ينهض بالأحلام الواعية للعقل الباطن حتى نصل إلى نقطة الذروة في قصة (الرجل الذي أكل الساعة) وهي القصة الأطول في مجموعة، والتي امتازت بنفس روائي مخلص لكافة جماليات القصة، في بنية مركبة وأقرب لتقنية المونتاج المتوازي في اللغة السينمائية، استرجعت نهايات القصة الأخيرة في المجموعة تفاصيل أبطال باقي القصص، كأذني الجربوع والرجل ذي البطن المستديرة في القصة الأولى، ثم رائحة اليوسفي والضفادع المتناثرة على الطرق كما في قصة ذاكرة اليوسفي، كما تقاطعت بعض الأحداث الكبرى في حياة بطلي قصة ( أوراق أتيس الأولى) مع شخوص قصة (الرجل الذي أكل الساعة)، بنسق شيق أظهر القصة وكأنها لا تكتفي بتحية بقية شخوص القصص الأخرى، بل تدلل على وحدة موضوع المجموعة، ككتاب قصصي ليس فقط متماسكًا على مستوى الموضوعات والرؤى والأفكار، ولكنه ظل حتى السطور الأخيرة في ترابط وثيق يظهر مصائر الأبطال كشخوص وإن مزقتهم الحياة، فها هم يلتقون في أحداث مصيرية فارقة. أبطال حالمون فى مواجهة حياة كابوسية لا ترحم تتباين تفاصيل حيوات أبطال القصص إلا أن الرهافة تجمعهم أسفل مظلتها العريضة، فبطل (صيف الجربوع الأخير) الحساس للروائح، المتأمل، الغارق في قوقعته، وجد براحًا في عالم الحكايات التي يتلوها عليه صديقه العجوز، وعندما فداه هذا الصديق لم يجد إلا عنكبوتة هذا الجار لتكون رفيقته لأيام مستقطعة من واقع كابوسي، وبطل ذاكرة اليوسفي انعزل عن البشر والحياة ليلقي بنفسه في حياة الكتابة ورائحة اليوسفي، فيما حاول أبطال قصص ( أوراق أتيس الأولى)، و(شبح مدينة الميلاتونين)، و(الرجل الذي أكل الساعة) التحايل على حياة موحشة، عن طريق انخراطهم في ذوات معذبة أخرى، ومع كل هذه الوقائع المُؤرقة لم يتخل هؤلاء الأبطال عن رهافتهم، ولم تكسبهم حيواتهم الكابوسية نزعات انتقامية ربما نجحت في ظروف أخرى في التغلب عليهم، لولا هذا الولاء اللا واعي للرهافة في أرق صورها وأكثرها فرادة.