تعرف على أسعار الذهب اليوم الخميس 2 مايو.. عيار 21 ب3080    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    تأهب في صفوف الشرطة الأمريكية استعدادا لفض اعتصام جامعة كاليفورنيا (فيديو)    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم قلنديا شمال شرق القدس المحتلة    هاني حتحوت: مصطفى شوبير اتظلم مع المنتخب.. وهذه حقيقة رحيل الشناوي    هل يستمر؟.. تحرك مفاجئ لحسم مستقبل سامسون مع الزمالك    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    التحضيرات الأخيرة لحفل آمال ماهر في جدة (فيديو)    ما الفرق بين البيض الأبيض والأحمر؟    «الأرصاد» تكشف موعد انتهاء رياح الخماسين.. احذر مخاطرها    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    أول ظهور ل أحمد السقا وزوجته مها الصغير بعد شائعة انفصالهما    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    طريقة عمل الآيس كريم بالبسكويت والموز.. «خلي أولادك يفرحوا»    مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني يواصل تصدره التريند بعد عرض الحلقة ال 3 و4    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    حسن مصطفى: كولر يظلم بعض لاعبي الأهلي لحساب آخرين..والإسماعيلي يعاني من نقص الخبرات    واشنطن: العقوبات الأمريكية الجديدة ضد روسيا تهدف إلى تقويض إنتاج الطاقة لديها    بشروط ميسرة.. دون اعتماد جهة عملك ودون تحويل راتبك استلم تمويلك فورى    عاطل ينهي حياته شنقًا لمروره بأزمة نفسية في المنيرة الغربية    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 2 مايو 2024    مُهلة جديدة لسيارات المصريين بالخارج.. ما هي الفئات المستحقة؟    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    احذر الغرامة.. آخر موعد لسداد فاتورة أبريل 2024 للتليفون الأرضي    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    صندوق مكافحة الإدمان: 14 % من دراما 2024 عرضت أضرار التعاطي وأثره على الفرد والمجتمع    ترابط بين اللغتين البلوشية والعربية.. ندوة حول «جسر الخطاب الحضاري والحوار الفكري»    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2 مايو في محافظات مصر    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    اشتري بسرعة .. مفاجأة في أسعار الحديد    أول تعليق من الصحة على كارثة "أسترازينيكا"    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    لبنان.. الطيران الإسرائيلي يشن غارتين بالصواريخ على أطراف بلدة شبعا    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    مسؤول أمريكي: قد يبدأ الرصيف البحري الجمعة المقبلة العمل لنقل المساعدات لغزة    القوات الأوكرانية تصد 89 هجومًا روسيًا خلال ال24 ساعة الماضية    الوطنية للتدريب في ضيافة القومي للطفولة والأمومة    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    حمالات تموينية للرقابة على الأسواق وضبط المخالفين بالإسكندرية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    وزير الأوقاف: تحية إعزاز وتقدير لعمال مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدليّة الانبتات والتجذّر .
نشر في شموس يوم 12 - 09 - 2016


"صدقيّة التّماهي واغتراب الذاكرة " .
قراءة نقديّة في المجموعة القصصيّة "رتق الرّوح " للدكتور رياض جراد.
بقلم الكاتب و الناقد التّونسي شكري مسعي .
عندما قرأت القصص القصيرة في رتق الرّوح للقاصّ الدكتور رياض جراد اكتشفت عوالم مختلفة ونمطا مغايرا في الكتابة السرديّة، والقارئ لهذه المجموعة لا بدّ أن يكتشف قدرة المؤلّف على إيصال المتلقّي إلى تكوين رؤية فكريّة عن وضع اجتماعيّ مبتَلًى بالفقر والحرمان والجهل وضيق الأفق المعرفي باستثناء قلّة من المجتمع خدمتها عديد الظروف، كلّ ذلك كان بأسلوب فنيّ متماسك النّسيج.. إنّك مع مجموعة ذات حضور في النّفس و الذّاكرة ذلك أنّ اختيار الدّكتور رياض جراد عنوانا فريدا لمجموعته (رتق الرّوح ) ذا الدّلالة الصوفيّة في ظاهرة لا يخفي صدقيّة الطرح وإشراقاته النورانيّة في نفس القارئ.. رتْق من رَتَقَ يرْتُقُ الشّيء رتْقًا أيْ سدّ ثقوبه وخاطه أو لحَمَه، لكن عندما يتعلّق الرّتق بالرّوح يأخذ المعنى تأويلاتٍ عديدةً.. و ينزاح عن المعنى القريب إذ لا يُرْتَقُ عادة إلا الثّوب أو الرّداء أو الجلد أو الجرح.. ورتق الرّوح هو سدّ لجراحاتها ولحْمٌ لخدوشها.. إنّ العنوان مغرٍ وواعدٌ وهو ذو دلالة سيميايّة متوهّجة تفتح أمام المتلقّي الواعي نوافذ رؤيويّة قد تمنحه القدرة على فكّ شفرات النصّ واستنطاق أغواره وهو ما سنحاول أن ننجزه في هذه القراءة السّريعة ..
فللكاتب الدّكتور رياض رتق الرّوح ولنا فتق النصّ. واستنطاقه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ..
في خضمّ الاشتغال في بؤرة الذاكرة المتشظّية بين ماضويّة ذاكرتيّة وآنيّة حدثيّة مشبوبة بالإحساس الموجع بالتأرجح بين الانبتات والتجذّر يشحذ القاصّ/ السّارد الذّاكرة لتستحضر كلّ تفاصيل الحياة والواقع الذي يزخر بألوان وروائح وصور وأشكال وبشر وحيوان وأماكن عزيزة ذات مكانة في القلب .. إنّ ذاكرة المؤلّف حيّة نابضة تبعا لعمره فهو مازال شابا يمتح أدواته الذاكراتيّة من معين متدفّق هو المكان .. هذا الذي استأثر بجلّ تفاصيل الرّتق.. وعلى هذا الأساس ينبني الفعل الكتابيّ وتقوم العمليّة السرديّة على ثلاثة محاور في المجموعة القصصيّة "رتق الروح" للدكتور رياض جراد هي: القرية بؤرة للمعيش. مرآة الذاكرة / المدينة موطن الشباب والانطلاق والبحث عن دنيا جديدة / صور و تأمّلات من وحي الأنا المتعدّد .
* القرية بؤرة المعيش .. مرآة الذاكرة :
القرية هي فضاء النّصوص في رتق الروح. إنّها مسرح الأحداث والحكايا. وهي الخلفيّة لكلّ ما يجري ويحدث، إنّها الحضن الذي ترعرع فيه الكاتب وعرف أولى خطواته وقهقهاته وأوجاعه. إنّها موطن السّرور والحبور والدّموع والبكاء. منها تنطلق الحكمة أحيانا وينبعث النّور من وراء التلال ..هنا تمتح الذاكرة أدواتها لترسم لوحة من الحياة البسيطة الهادئة الرائقة بين أصابع الشّمس ورموش الصّباح الفتيّ .. هنا يكون للوجود طعم الشّهد رغم قلّة الحيلة وضيق ذات اليد.. هنا يكون للأمل مكان. ص: 16( كنت تلبس قشّابيتك وتجلس على عتبة المنزل، ترسل بصرك في بساتين القرية والجبل الماثل على أطرافها، ترمقني من طرف خفيّ بعين الرّاعي وأنا أكوّر الثّلج وألقي بالكريّات أبعد فأبعد إلى السّماء، فأردّ لها صوفها وقد غزلته أناملي، أصنع من الثّلج رجالا ونساء وأطفالا وطيورا وخرافا) ..هكذا يكون للمكان جلاله وسلطانه لأنّه يعطي الشخصيّة حريّتها في أن تكون فاعلة بقدر كبير وأن تكون حاضرة بالفعل بقدر أكبر. والنصّ فيه من الحكمة ما يجعله درسا بناه القاصّ ليؤكّد أنّ ذلك القرويّ الذي حرمته الظروف أن يدرس أو شاءت قلّة الحيلة لديه أن يكتفيَ بالنّزر القليل من التّحصيل ليس بأقلّ من الذين تعلّموا وامتدّت بهم سبل الدراسة ..ص: 15( خرافك تُجَزّ صيفا، والسّماء تًجَزُّ شتاء يا ولدي، ولا يخدعنّك بياض صوف السّماء ولينه، إنّه جميل بطعم الموت يا حبيبي، ألا ترى لين ملمس جلد الأفعى وتناسق ألوانها وهي تسقي السمّ الزّعاف ؟) .ولأنّ النصّ مبنيّ من رخام الذاكرة، فهو يهمي متدفّقا أحيانا إلى درجة أنّه يعصف بالمتوقّع من سنن التقنيات الفنيّة في السرديّة فلا يحتكم إلى نظام محدود، فيأتي بعضه أحيانا مقتضبا مترهّلا تنفصل بعض أجزائه وتصير غريبة عن البنية الكليّة للنصّ، وهذا عائد
لاحتفاله بالماضويّة والذّاكرة حتّى أنّ بعض الجمل تتفاوت في قدرتها على توصيل الحكاية. فمن الشعريّة والحكمة والعمق إلى السطحيّة والتجريد حدّ الغموض المغلق الذي يُفقد النصّ جذوته أحيانا. ورغم كلّ ذلك يظلّ النصّ في قصص الدكتور رياض نابضا بالفعل وبكيمياء اللّغة السامقة ..
يلحظ قارئ مجموعة "رتق الرّوح " أنّ المشهد السّرديّ لا يحتفل فقط بالزّخم اللّغويّ بل يتعدّى ذلك إلى امتلاء المشهد بعوالم قصصيّة مكتظّة تنسجم مع البؤر السرديّة، ما يجعل تلك اللّغة الشاعريّة حاضنة لأحداث القصص. فالمشهد يتحوّل إلى لوحة مملوءة بالألوان والشخوص، ومن النّصوص الناضجة قصصيّا نصّ (السقّاء) فأنا أعتبره أنضج نصوص المجموعة وأقدرها على بسط الهمّ الانسانيّ .. في هذا النصّ يتشكّل عالم قلق موارب.. لحظة فارقة بين وضعيْن: وضع قديم كان فيه السقّاء بلقاسم (وهو الشخصيّة المحوريّة في القصّة ص 35) المزوّد الوحيد لأهل القرية بالماء يسقيهم ويملأ قربهم وقنانينهم وأوانيهم ، ووضع جديد استفاقت عليه القرية ذات صباح لتجد الحفّارة العملاقة تنخر أرض هنشير الدّاموس لتحفر البئر وقد انتشر عمّال شركة استغلال المياه. القرية سوف تفارق ركن انتظار بلقاسم السقّاء لتنخرط في مشروع الشركة الواهبة للماء.. الواهبة للراحة والحياة.. تغيّر الوضع في القرية، فأصبح الماء في المنازل في حنفيّات، وهو خير طال أهل القرية في ظاهرة لكنّه شرّ أقعد بلقاسم عن العمل وحكم عليه بالبطالة وتجويع أسرته، وما طال حتّى انكشفت عوراته ونوايا أصحابه. حفر البئر القرويّة كان مطيّة لمصادرة حقّ أهل القرية في المياه، ص 37 ( .. إذا ما لبثت الشّركة أن حوّلت كلّ منسوب البئر لسقاية المدن المجاورة . يومها قصد بلقاسم دار العمدة ، وقال له : "لقد قلت إنّ المسؤولين على دراية تامّة بما يفعلون سحقا ꜝ إنّهم مستغلّون .) على أنّ المجموعة القصصيّة شملت نصوصا غلبت عليها أحيانا بساطة الرؤية السرديّة للكاتب ممّا أسقطها – في اعتقادي – في نوع من الهشاشة القصّيّة تشظّت فيها اللّحظة القصصيّة وسقط النصّ في نوع من الخطاب المباشر العادي فأحيانا تغزوها الوقفات والوصف فغاب التكثيف والعمق الذي يجلب المتعة القرائيّة، مثل نصّ رتق الرّوح الذي عُنوِنَتْ به المجموعة ، لكنّ الذي يُحسَبُ لهذا النصّ ويُعتَبَرُ مَحْمَدة لغته الشاعريّة المدويّة التي تجعل الفكرة البسيطة عميقة وذات حضور محمود في المشهد الحكائي .
* المدينة موطن الشّباب و الانطلاق و البحث عن دنيا جديدة .
المدينة هي الوجه الآخر للمرآة العاكسة لحياة الشخوص. إنّها موطن الاحتمالات والشرور والضغط والمتناقضات. هي بؤرة الحياة المتوتّرة الخانقة وأيضا حاضنة الهموم والواعدة بالرفاهيّة والحرمان والغرابة والعبث والضياع والشهوات العارمة والتمرّد والأحلام الورديّة. عكس حياة القرية النّاعمة النّاعسة الهادئة البسيطة… والسّرد في بعض النّصوص التي تناولت المدينة بؤرة قصّيّة كانت لغتها أكثر جرأة وانفتاحا وخشونة.
الشخوص في النّصوص التي حضرت فيها المدينة كبؤرة مكانيّة في مستوى اللّحظة القصصيّة مضطربون، مسكونون بالقلق والهوَس، يجادلون عوالم داخليّة وخارجيّة ضاغطة وخانقة لا يحكمها منطق. هم ضحايا أوضاع اقتصاديّة واجتماعيّة متأزّمة. والمدينة حسناء متدلّلة وأحيانا غانية متبرّجة مغرية لعوب. وأحيانا سجن خانق مقيت. عندما لا يجد الطّالب ما يؤمّن له دراسته وعيشه وبعضا من رغباته الجامحة ولا ما يحفظ له ماء وجهه ويحافظ له على حبّه الشبابيّ المفعم بالتوهّج والآمال. عندما تخونه الملّيمات البسيطة وتعصف بوعوده وآماله وتسفّه أحلامه. عندها يكون للمعاناة طعم الحنظل وللصّبر لسع الشّوك وللوجود ثقل الجبال. عندها فقط يكون للمدينة وجه الغول ومخالب الوحش. ص 73 (أشتغل كامل اليوم بالتّفكير في حلّ لهذا الوضع المؤلم المزري، صرخ في حنق: " ألا يكفيني ما أعانيه من ألم الدّرس ؟ .. اللّعنة "، تتوالى حالات الهدوء والانفعال وهو يسبّ ما آل إليه حاله، سيذهب لسالم البقّال يعطيه بعض الطّعام وسيدفع له لاحقا، نعم سيفعل ذلك العمّ سالم رجل طيّب… توقّف على بعد خطوات منه ليتساءل: ماذا لو ردّني ؟ شلّه تعفّفه المتأصّل فيه، وخوفه من إهدار كرامته، فقادته أقدامه إلى غرفته من جديد… ما الحلّ " هيّا… فكّر يا عمر.. سيقضي عليك الجوع إن بقيت في عجزك هذا ") أيّ مستقبل لطالب شابّ نازح من قريته طلبا للعلم والمعرفة حالم بمستقبل مشرق؟ إنّه كغيره من آلاف الطلبة الشّباب يعيشون الشّظف والقهر وهم يناضلون من أجل تحقيق حلم الأب الواهن الفقير والأم
البائسة .. هذه هي المدينة بأضوائها وشوارعها وأنوارها وأهلها الخشنين الذين يضربون في شوارعها طولا وعرضا وقد شغلتهم حياتهم ومصالحهم عن هموم ذلك الطالب النازح من عمق القرية ..
إلاّ أنّ الكاتب في جلّ قصص المجموعة نجح إلى حدّ كبير في استنطاق الحياة وكشف ملامحها المقنّعة. لقد حاول أن يمارس في "رتق الرّوح " عمليّة هدم للوعي الكائن وبناء وعي ممكن عبر كتابة جريئة ومشاكِسة شكلا ومحتوى، كتابة تمارس انفعالاتِها وجنونَها اللّذيذ وسطوتها على المتلقّي.. كتابة تشي بأجواء التّوق للتحرّر من قتامة واقع ثقافيّ وسياسيّ واجتماعيّ وقيَميّ وازدواجيّة هذا الواقع المهترئ .. فأتت اللّغة في النّصوص رتقا لعُرْيِ الموجود وفتقا لعُرَى المنشود… لقد نجح الدكتور رياض- باقتدار- في بناء عالم مرئيّ وتمكّن باللّغة الكاشفة المتينة ومنها أن يشرّح جسد الواقع ويقف على أهمّ علله و لكنّه لم يقترح علاجا لهذه العلل ، وهذا كان مقصودا حتّى يترك للقارئ المساحة ليعايش المحن ويضرب في دنيا النّصوص بحثا عن ثقوب لم تُرْتَقْ .. عندما نقرأ قصّة " شاء القطار " نلمس هذه اللّغة الشعريّة الباذخة 79 – 80 ( … إذا ما فتحت نعشي ووجدت جلدي اختلط بالتراب وعظمي يكسو لحمي، فلا تجزعي فقد شاء القطار… ستدخلين غرفتي، ويطاردك شبحي في كلّ ركن، وتساورك أفكار وأحلام تقاسمناها، فلا تجزعي، فقد شاء القطار… ههنا ملابسي القليلة مطويّة بنظام كما تحبّين، لن ألبسها بعد اليوم، فقد شاء القطار… وهناك على طاولتي الصّغيرة بعض كتبي وبعض منّي دوّنته على صفحات لا حاجة لي بها فلم أعد أرغب في أن أكون دكتورا فقد شاء القطار… تبعثرت الأحلام وماتت الأمنيات فقط لأنّه شاء… شاء القطار… إذا سألك ابني عنّي قولي له: لا تركب القطار فوالدك يخشى عليك أن يشاء القطار . أمّا أنا يا حبيبتي فقد حملت أوراقي وسافرت أطلب حقّي عند ربّي وربّ القطار ..). في هذا النصّ حكاية مختلفة مخاتلة مواربة ولغة شعريّة شفيفة ووجع قاتم .. هنا لعب الكاتب على وتر اللّغة وامتطى صهوتها وكان – بحقّ – ربّانا يقود سفينة السّرد بحرفيّة وذكاء. إنّه يبني ذاكرة داخل الذاكرة: ذاكرة وليدة في رحم ذاكرة والدة. حكاية الطّفل الصغير الذي وجده السّارد وتحدّث إليه.. الطّفل الذي فقد أباه وظلّ ينتظره. ينتظر أبا رحل ليحضر له الطائرة الورقيّة. هذه هي الذاكرة الوليدة المحضونة. أمّا الذاكرة الوالدة الحاضنة فهي ذاكرة السّارد وهو يستعيد أحداثا قديمة عاشها مع والد الطّفل الذي مات خلال الحادث المروّع ، وظلّ ابنه ينتظر. ذاكرتان هما عينان إحداهما مفتوحة على ماض قريب مفعم بالشوق والانتظار، والثانية مفتوحة على ماض بعيد مفعم بالوجع والحبّ… لعبة السّرد هنا مخاتلة تضع القارئ في مفترق اللحظتين الفارقتين بين الشعور بالاغتراب والإحساس بالضياع. والكاتب هنا مدرك لما يصنع واع بما تقتضيه اللّحظة السرديّة من غموض وتعتيم..
في " شاء القطار " كان للحزن تفرّده وخصوصيته وكان للخوف سلطانه الجاثم على قلوب الشخوص. قلب السارد وهو يستحضر ذكريات الوجع المقيت في عيني رفيقه وفي أوراقه التي تزخر بالهموم والخيبات والأشجان. وقلب الصديق الذي يمخره ألم فراق الأمّ… شاء السّارد أن يكون النصّ دفقا من عذاب وشاء القدر أن يكون الصّديق ذكرى مؤلمة تعبر إلى قلب الأمّ المكلومة … على أنّ هذا النصّ كان فريدا في بنائه من رحم الاسترجاع والتوكّئ على سارية الذكرى، ونجح المؤلّف في تحقيق المصالحة بين ماضيين التقيا لكشف قمّة الحزن والشّجن .. بعض النّصوص في المجموعة اتّسمت بأسلوب شيّق لذيذ رغم ما تحويه من وجع .. وفنيّة السّرد فيها عالية الصّوغ . حين يزداد اعتماد الكاتب على التكثيف في لغة رديفة للشّعر.. مشاهد من نثار الحياة، وحشد من التفصيلات الدّقيقة المرهقة، وحكايات أغلبها أصوات للعقل وأسماع للقلب، يُزجُّ بها في ايقاعها المتوثّب دون أن تملك فرصة لالتقاط الأنفاس، ثمّ شذرات من السيرة الذاتيّة تتقاطع مع بنياتٍ سرديّةٍ تتضافر حثيثا مع مشاهد جغرافيّة متنوّعة ومتقاطعة لا يجمع بينها سوى الأبطال في القصّة .
* صور و تامّلات من وحي الأنا المتعدّد :
ذاكرة المؤلّف تمزج بين الخاصّ والعام في نوع من التبادل والانسجام حيث المأثور والفردي والميراث الجمعي يشتبكان بلا تفرقة ولا تصادم ، حتّى أنّ فعل الموت كحادثة يتمّ سرده بتلقائيّة لكنّها مشبوبة بحزن صامت.. حادثة الموت أو الميلاد في رتق الروح تبدو عادية لا تخرج عن المتعارف، لكنّ يد السّارد وعينه اليقظة المدرّبة تحوّلان الحكاية إلى متوالية سرديّة متدرّجة في دراميتها أو في فانتازيا الفرح فيها . تتداخل خيوط السّرد و تتعقّد في مساحة حوار تتّسع لكلّ الرؤى والأفكار، وهو حسّ روائيّ
يذكّرنا بأعمال كبيرة مثل: ميرامار "لنجيب محفوظ ، لكنّ الحسّ السّاخر الذي يؤطّر بعض الأحداث يشعرنا في كثير من الأحيان أنّ الدكتور رياض جراد يحاول أن يوثّق فكرا أو يحدّد موقفا أو يرسيَ نظاما في الحياة عبر متواليات سرديّة وطرح فكريّ ناضج وواع بمتطلّبات العصر ومدرك لمتناقضاته…
صور وتأمّلات اقتضاها التعايش القسريّ أحيانا مع الواقع والمعيش في ظلّ بؤر مكانيّة تنهل منها الأنا المتعدّدة في علاقتها بكلّ ما حولها ومن حولها.. إنّ هذه الأنا تتشظّى إحساسا وفكرا وتتجزّأ وتنشطر وتتوالد رؤًى وتأمّلاتٍ لتكون رحما حاضنا لكلّ ما يدور في المكان و ما يحتزنه الزّمان ..
وقفت طويلا أمام النّصوص التي يختطّها قلم الدكتور رياض جراد لأسأل نفسي عن استراتيجيا الكتابة لديه، وعن الطرائق الحكائيّة التي يعتمدها في السّرد.. ورغم المنحى المباشر في القصّ والحسّ السّاخر لديه والذي يمكن أن نستشّفه في كثير من نصوص المجموعة وعن رنّة الابتهاج بالحياة ورغم ما واجهناه من أحزان ومكابدة وشجن ونحن نتعقّب النصوص، إلا أنّ هناك خيطا سرديّا متينا ساحرا يربط النّصوص ببعضها وهو قدرة الكاتب على الإبانة والرّغبة في الإفصاح والتوجّه الحثيث نحو الدّوائر البلاغيّة والجماليّة كي يحتويك السّارد عبر ما يبثّه في النصّ من صِدقيّة فنّيّة كبيرة يتوسّل له عبر لغة بسيطة وحكايات واقعيّة، ومواعظ وكشوفات جماليّة تتحوّل في يديه إلى نهيرات تغذّي القصّة وتمنحها تداعيات خالقة ومنتجة …
في قصّة "رسالة" ص 28 ينبجس من الحوار الذي دار بين السارد وأمّه رغبة في تعلّم الكتابة ودهشة من الرغبة إذ أنّ الأمّ المتقدّمة في السنّ تطلب من ابنها أن يعلّمها الكتابة وهو يندهش لطلبها .. (ما بال حبيبتي ؟/ علّمني الكتابة لقد أحضرت كرّاس خطّ وقلما، انظر لن أكلّفك شيئا، فقط بعض وقت فراغك ./ الكتابة، وما حاجتك للكتابة، وأنت في هذا السنّ؟ إن أردت أن تقرئي أوتكتبي شيئا أخبريني، وسأفعل ذاك من أجلك، أمّأ التعليم في هذا السنّ… فصعب). ولكنّ الأم الراغبة في تعلّم الكتابة تناضل لتحقيق رغبتها ليس من أجل الكتابة بحدّ ذاتها بل من أجل غاية أخرى أوصلنا إليها السّارد بأسلوب فنّي وطريقة للحكي آسرة ومؤثّرة. إذ أنّ الأمّ الأرملة كانت في سنّ الثمانين وكانت تحافظ على موعد زيارة زوجها والد توفيق في المقبرة وتجلس تحدّثه حديث الّصفاء والحبّ بل حديث العشق ..ص 30 (فقد كلّ شيء بعدك لونه وشكله وطعمه، كلّ الأشياء متشابهة. الحياة رتيبة وبلا معنى، أراني متُّ مثلك… دفنوك وغفلوا عن دفني، فبقيت تائهة بين الأحياء طيفا، لا يدركونني ولا أنا أجد لوجودي بينهم معنى… لطالما أفقت صباحا على رائحة قهوتك تعدّها في برّاد الشاي، تراقبها تغلي على نار الكانون ترقب فيضها، كأنّه سيل حبّك الجارف..) في هذا المقطع القصير تعظم المناجاة ويسمق الحبّ ويستحيل الكلام أنفاسا حرّى تنطلق من روح الزّوجة الأرملة التي تجيء إلى قبر زوجها تبثّه خواطرها وأنفاسها لتصل تلك الأنفاس إلى روحه حيث يرقد. لكنّ طلب تعلّمّ الكتابة يأخذ معنى شفيفا رومنسيا مؤثّرا إذ أنّ الزّوجة المحبّة تخشى أن يُقعدها المرض فلا تستطيع أن تأتي إلى حيث يرقد زوجها. فهي تريد أن تخطّ له سطورا من روحها بمداد قلبها وأنفاسها ص33( لقد طلبت من توفيق أن يعلّمني الكتابة لعلّي إذا ما عجزت أكتب وجعي على الأوراق… سأحدّث عنك وعنّي الطّير عند الشرفة ، وأبثّها حرقتي و لوعتي ..)
كم هي صعبة تلك المهمّة التي يقوم بها الكاتب في إخراج الزّمن من ثقب يغور في أبعاد الوجود لأجل مكان يُحتضَر، إنّها مهمّة صعبة حيث يبحث الكاتب عن علاقة عكسيّة موجبة بين الزمان والمكان . كونٌ موضوعه التجاذب والتنافر ما بين العنصرين ينجح الكاتب- باقتدار- في امتلاك زمام أمره ومقود تسييره نحو نقطة لقاء حميمية بين الرّغبة في الفعل وتفعيل الرّغبة من خلال تطويع الأسلوب المنبني على فنيّات الوصف والحوار في سرديّة عالية ..
العطاء قدرة عظيمة، لكنّ الزّمن لا يمنحها ببساطة إلا أنّ الكاتب -على ما يبدو- هو وحده من يستطيع فعل ذلك .. تلك هي الصّور والتأمّلات تتوالد من رحم اللّحظة السرديّة و نتبجس من بين أصابع الكاتب الذي يصنع مستقبل الشخوص ويتنبّأ لها بأقدارها و يقرّر عنها مصائرها .
هكذا بدا الدّكتور رياض جراد في رتق الرّوح مدركا لسلطة الفعل في الكتابة القصصيّة وسطوة النموذج القصصيّ الذي اختار الاشتغال فيه.. إنّه النموذج الحديث الذي يتحرّك في فلك الفنيّة العالية ويؤسّس منظومته الكتابيّة الإبداعيّة من خلال العودة إلى واقع الحياة في القرية والمدينة والحيّ الشعبي
والأسرة الصّغيرة والأمكنة الزاخرة بالمتناقضات والعذابات والشقاء والفرح الطفوليّ. لكنّها أمكنة في جلّها حبيبة إلى قلب الكاتب تصالحه مع ذاته وتعيده طفلا ينهل من ينابيعها ويلهو في ربوعها..
رتق الرّوح إذن هو رتق لذاكرة جماعيّة ..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.