كفاية جشع...حملة جديدة لمقاطعة اللحوم والبيض والفراخ..إليك الأسعار    مفاجأة في سعر الذهب اليوم الأحد 28 أبريل 2024 في اليمن    الكرملين: مصير زيلينسكي "محسوم"    إطلاق عشرات الصواريخ من جنوبي لبنان تجاه قاعدة "ميرون" الإسرائيلية    وزير الرياضة يهنئ الخماسي الحديث بالنتائج المتميزة بكأس العالم    أعراض سمية فيتامين د والجرعة الموصى بها    خليه في المياه.. منتجو الأسماك يتحدون حملات المقاطعة    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    انخفاض يصل ل 36%.. بشرى سارة بشأن أسعار زيوت الطعام والألبان والسمك| فيديو    دهاء أنور السادات واستراتيجية التعالي.. ماذا قال عنه كيسنجر؟    السفير الروسي بالقاهرة يشيد بمستوى العلاقة بين مصر وروسيا في عهد الرئيس السيسي    فيديو.. سفير روسيا لدى مصر: استخدام الدولار في المعاملات التجارية أصبح خطيرا جدا    لميس الحديدى: نعمت شفيق تواجه مصيرا صعبا .. واللوبي اليهودي والمجتمع العربي"غاضبين"    نتيجة وملخص أهداف مباراة تشيلسي ضد أستون فيلا في الدوري الإنجليزي    طلب عاجل من الأهلي بشأن مباراة الترجي في نهائي إفريقيا    حجز المركز الثاني.. النصر يضمن مشاركته في السوبر السعودي    شيكابالا يستعد لمواجهة دريمز الغاني بجلسة علاجية خاصة    باريس سان جيرمان يؤجل تتويجه بلقب الدوري الفرنسي بالتعادل مع لوهافر    خلاف على قطعة أرض.. إصابة شخصين في مشاجرة بالأسلحة النارية بالمنيا    مصرع عروسين ومصور في انقلاب سيارة داخل ترعة بقنا    ضبط وتحرير 10 محاضر تموينية خلال حملات مكبرة بالعريش    الزفاف تحول إلى مأتم.. مصرع عروسين ومصور أثناء حفل زفاف في قنا    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    «الأزهر للفتاوى الإلكترونية»: دخول المواقع المعنية بصناعة الجريمة حرام    أستاذ استثمار: مصر تستهدف زيادة الصادرات في الصناعات الهندسية    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    كيف تختارين النظارات الشمسية هذا الصيف؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    رئيس جامعة أسيوط يشارك اجتماع المجلس الأعلى للجامعات بالجامعة المصرية اليابانية للعلوم    تليفونات بنى سويف يصدر بيان حول إصابة ' ابراهيم سليمان '    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    قبل نهاية الصيف.. طربول الصناعية: طرح أول طرازين من سيارات لادا محلية الصنع بأسعار مميزة    رقم سلبي تاريخي يقع فيه محمد صلاح بعد مشادته مع كلوب    مصر تواصل الجسر الجوى لإسقاط المساعدات على شمال غزة    حزب أبناء مصر يدشن الجمعية العمومية.. ويجدد الثقة للمهندس مدحت بركات    "الإسكندرية السينمائي" يمنح وسام عروس البحر المتوسط للسوري أيمن زيدان    رامي جمال يحتفل بتصدر أغنية «بيكلموني» التريند في 3 دول عربية    عزيز الشافعي عن «أنا غلطان»: قصتها مبنية على تجربتي الشخصية (فيديو)    شرايين الحياة إلى سيناء    «القاهرة الإخبارية»: مواجهات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين أمام وزارة الدفاع فى تل أبيب    محافظ القاهرة: استمرار حملات إزالة التعديات والإشغالات بأحياء العاصمة    "مستحملش كلام أبوه".. تفاصيل سقوط شاب من أعلى منزل بالطالبية    جريمة طفل شبرا تكشف المسكوت عنه في الدارك ويب الجزء المظلم من الإنترنت    جامعة كفر الشيخ تنظم احتفالية بمناسبة اليوم العالمي للمرأة    أمين صندوق «الأطباء» يعلن تفاصيل جهود تطوير أندية النقابة (تفاصيل)    حبست زوجها وقدّمت تنازلات للفن وتصدرت التريند.. ما لا تعرفة عن ميار الببلاوي    سمير فرج: طالب الأكاديمية العسكرية يدرس محاكاة كاملة للحرب    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    سمير فرج: مصر خاضت 4 معارك لتحرير سيناء.. آخرها من عامين    أمل السيد.. حكاية مؤسِّسة أول مبادرة نسائية لتمكين المرأة البدوية في مطروح    رمضان عبد المعز: على المسلم الانشغال بأمر الآخرة وليس بالدنيا فقط    هيئة كبار العلماء بالسعودية: لا يجوز أداء الحج دون الحصول على تصريح    حكم الاحتفال بعيد شم النسيم.. الدكتور أحمد كريمة يوضح (فيديو)    عاجل.. وزير الخارجية الأميركي يتوجه إلى السعودية والأردن وإسرائيل مطلع الأسبوع    النيابة تطلب تحريات إصابة سيدة إثر احتراق مسكنها في الإسكندرية    بالتعاون مع فرقة مشروع ميم.. جسور يعرض مسرحية ارتجالية بعنوان "نُص نَص"    أهمية وفضل حسن الخلق في الإسلام: تعاليم وأنواع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبح طائرة ورقية: السرد الحسي
ذو النزوع إلي المجرد
نشر في أخبار الأدب يوم 30 - 04 - 2016

يقدم هشام أصلان في مجموعته القصصية الأولي "شبح طائرة ورقية" الصادرة عن "دار العين" عالما فنيا خاصا في اثني عشر قصة قصيرة، نماذج متنوعة ذات طبيعة إنسانية شفافة، يرسم شخصيات كأنها من مادة السحاب أثيرية، سابحة في الوجود، لكن لكل منهم طريقته، جميعها تسعي إلي الحرية فتعلو علي القيود الواقعية.
يلتقط القاص الأشياء والمشاعر البسيطة للغاية ويكسبها بعدا إنسانيا ونفسيا عميقا، كأن أصلان الابن ينسج سرديته الخاصة التي تتحسس شعرية الأساطير والأحلام، فتبدو نماذج الشخوص بالمجموعة وكأنها تتطاير وتشف، ومن هذا الوجود الخفيف الذي يبدو بينيا ما بين الحقيقة والأشباح تخير القصاص اسم مجموعته "شبح طائرة ورقية".
فالشخصيات معظمها تقدم كأنها ظلال وجود لكائنات تتطاير، أو تبدو كأنها أشباح من حيث درجة ثقلها في هذا العالم، ما يربطها به بالفعل مجرد خيط واٍه ضعيف يصنع حالة من الوجود المفارق، تمتلك تميزها متي وضعت في لقطات وأحداث توتر تبرز إنسانيتها العميقة، فتقدم الشخوص حالة من الوجود العابر دون تصريح برسالة موجهة إلي القارئ. فنجد "حسين" "في أصوات الممر" " كأنه التقي بنشيد صوفي لا يسمعه أحد غيره"، والعروس الجديدة الجارة في "علي واجهة السبيل" تعشق الحلم وتبوح به في طقس جماعي تمارسه النساء، تعشق "أميتاب بتشان" ربما للهروب من واقع لا يلبي حاجة عواطفها، فهي لا تقصد الخروج علي التقاليد أو الشريعة والأعراف، تتملكها روح فنانة ترسم الخطوط بمهارة فائقة رغم أنها لا تعرف القراءة والكتابة، يتخيرون رسمها للحروف علي السبيل الخيري لإبداعها الفطري، فالحياة والفن والحيوية دائما ما تواجه الموت والحياد أو القبح.
في قصة "مجرد رائحة" تظل شخصية السارد تعيش أسطورتها الموروثة في وعيها العميق من خلال قراءاته، تخرج من ذاكرتها زهور الفل السحرية، ومدينة كل نسائها يلضمونه ويتزينون به، مخيلة ترفض الانصياع لسطوة الواقع الذي يخلو من السحر والجمال ومفارقة الأسطورة عندما ذهب إليها السارد، في قصته "رقص السنة" تتجلي المفارقة بين المتاح وتصورنا لعالم آخر يستقر بوعينا من الحكايات التي تشكل وجداننا أو فن السينما بما يميزه من سحر خاص.
يلتقط القصاص نماذج بشرية بسيطة لها أحداثها العادية واليومية ثم يحمًل هذه النماذج إشارات وجودية شديدة الإنسانية والرهافة تصنع في كل قصة حالة بين الوجود الواقعي وبين الانفصال عن هذا الواقع ؛ لخلق عالم بديل ينحو إلي تعالي صوفي ينجو من وطأة واقع ثقيل، كما تبدو شخوصه كأنها حيادية لا تبتغي توصيل رسالة معينة.
تشكل معظم قصص المجموعة شريطا ممتدا مصورا لنماذج بشرية تتكئ علي الذاكرة الحسية والنزعة الإنسانية، تسجل لمراحل من حياة الإنسان وحيوية طبيعته، وتنوع أفراده ضمن الوجود البشري، في مدن لم تزل تلفها غلالة من دفء المشاعر الإنسانية وانتصارها للحياة والجمال، رغم ثنائية الموت والحياة التي تقفز دائما في السرد، ونواجه فيها بحتمية النهايات.
نماذج تعلو بإنسانيتها:
ينتصر القصاص لهذا الجانب المتعالي، غير المادي بالبشر وغير المنضوي في ثقل الواقع وحياديته أو قبحه مثل أن يظل الضوء الخافت مجهول المصدر في نهاية الشارع الضيق في "مجرد رائحة"، كما يتجلي في نموذج قصة "الفاكهة" هذا الجانب الإنساني الطارد للطمع رغم ضيق حاله، الإنسان المتعدد الطبقات رغم بساطته وتهميشه، القادر علي السخرية من ذاته وهو ينادي علي بضاعته فيقول: "يا أقرع زي دماغي يا بطيخ"، مرونة التغلب علي الحياة بمتغيراتها فتتغير بضاعته من موز إلي برتقال إلي بطيخ، مواطن متابع للسياسة فلم يزل حلمة مستيقظا منذ الفترة الناصرية، كما أن عينيه كأنما تبحث عن حلم بعيد قد يتراءي له في فيلا بيضاء تخاتله أطيافها، يرسم القصاص شخصية نصه بإشارات سريعة ومكثفة، اقتصاد في الوصف، لكنه يذهب بمتلقيه إلي تكوين صورة تشمل جوانب متعددة من هذا النموذج. مع ملاحظة أن جميع نماذج القصص إلا قصة "أصوات الممر" بلا أسماء وكأنهم غير محددون بأبعاد جسدية، فهي نماذج تتكاثر بإنسانيتها وشفافية أرواحها لا بكونها هذا المتعين الفرد، المنحصر داخل الاسم، فيبرز القصاص جوانبهم الإنسانية فقط التي يتمايزون من خلالها، هم أيضا بلا أدوار فارقة، لكنهم قدريون إلي حد كبير. كل منهم يحمل بداخله سؤال الفلسفة الطفولي البسيط، والقصاص غير معني بالرؤي الفلسفية قدر عنايته بأن يلامس الجزء الإنساني كإشارات وعلامات فارقة في نماذج قصصه، القاص يشير، وعلي القارئ أن يكمل تلك الفجوات من ذاكرته وثقافته أن يرسم هؤلاء الأفراد وكأنهم أطياف تتطاير.
كما يستخدم القصاص مجموعة من آليات السرد لرسم هذه النماذج تتنوع بين: طريقة تتابع السرد بتلك الإشارات الدالة المتناثرة، نقطة البداية التي تذهب بالقارئ لمنطقة أثيرية تشبه الحلم، وذروات هاربة لا تلتقطها إلا ومضا ضعيفا، ونهايات مفتوحة أو متباعدة عن سياق السرد ذاته، تقنية الحلم، والاتكاء علي الرمز والكنايات.
وتتميز هذه المجموعة بقدرتها علي توافر مستويات مختلفة من التلقي، وخاصة في قصته "ثلاث كؤوس أخيرة"، فكل الأشياء العالقة بالذاكرة واقعية أو أسطورية أو تخص أحلام الطفولة ونقاءها تتشوه وتختفي تدريجيا جمالها، يبقي منها فقط أجزاء باهتة تظل تترك أملا للذات الساردة التي تأبي أن يختفي هذا التماس السحري مع العالم.
وحيث تبدو برقي ظلال العلاقة بين أب وولده ويضطلع السارد بحكي شفاف، وزاوية ربما تبدو غير متواترة في تلك العلاقات الأسرية لكنها تنم عن علاقة خاصة فيها نوع من الصداقة المتحررة العميقة. في الجزء الثاني من القصة تخيم علي الأجواء صدمة الفقد لكن تظل الذاكرة تستدعي لحظات حميمة بين الابن وأبيه سعدا فيها معا وتصبح زجاجة الكونياك أيقونة يخرجها الابن ليستدعي ذكري أبيه واللحظات التي عاشاها معا.
يعود تعدد مستويات التلقي لدقة وحساسية المشاعر التي يلتقطها القصاص وأيضا لطرق التعبير عنها عن طريق لغة تلمح باقتصاد شديد للمعني الكامن لكنه معبر عن تلك المناطق الشعورية الدقيقة.
مابين إبراهيم أصلان الأب وهشام الابن يوجد مشتركات وإن اختلفت طبيعة وشعرية سردية الابن المسكون بهاجس المغايرة، ربما تمكن الأب هذا الجراح البارع من أدق الشعيرات الدموية التي تشكل نسيج حياة المهمشين واستطاع أن يشير ببراعة إلي الكامن بذواتهم ويشكل هويتهم الخاصة، كما ينحو لالتقاط جانب روحي عميق بأبطال قصصه ورواياته، يتلاقي الابن مع الأب في هذا التوجه لكن بنكهة وطريقة مختلفة، ربما في إرادة الاتساع بعوالم الرؤية، ورغبة الخروج عن المكان الذي سحر والده (إمبابة وشارع أبو الفضل عثمان)، ربما بدا الاختلاف في لعب الابن علي تفرًد الذات، يلعب هشام أصلان علي الخصوصية الفردية، بينما يرسم الأب نماذج تتواتر بالحياة لأنها تتضمن هوية مصرية خالصة ارتبطت بالمكان الذي تتراكم طبقاته الجيولوجية كما تتراكم ثقافاته بفعل الامتداد الزمني، أيضا لكل منهما طقس لغته الخاصة.
بعد أن انتهيت من المجموعة أدركت نسبيا الصراع الذي أتصور مدي احتدامه في نفس المبدع الذي يستهل خطواته الأولي، اختياره لطبيعة سرده، وإرادته لأن يختط لذاته بصمته الخاصة التي هي بلا شك تحمل بعض الجينات الموروثة والتي تربت مع تكوينه الثقافي ونوع الذائقة وأول ما قرأ، والمناقشات مع الأب وملاحظاته العابرة, أستطيع أن أتصور أن نداهة شارع أبو الفضل عثمان قد حاصرته طويلا حتي ولو كان الحصار سلبيا، أي برغبة أكيده في الفكاك منها، وإن كانت ظلال المكان الحميمي لم تزل تتراءي في خلفية قصه، وفي القاع العميق من الذات الساردة حيث الوعي بمكان قديم وبشر بسطاء لكن تتمتع نفوسهم بالغني الإنساني. تبدو المدن لدي هشام أصلان كما في "شرفة الشارع الخلفي" مخالف لإمبابة لكن تظل ظلال شارع أصلان الأب في ذاكرة القصاص فتتراءي أحيانا بعض خصائصه وسمات أفراده.
شعرية التفاصيل التي تعبر السرد لدي أصلان الابن دون غيرها هي ما تصنع هذه العوالم العالقة بذهنه بغض النظر عن درجة تحققها في الواقع أو تخيلها، الاستهلال في "دمية عملاقة تبتسم"، كيف تأتي أصوات الضوضاء إليه في مدينة الملاهي، حيث يتحوًل الأمر من إطار الواقع إلي منطقة أخري رمزية كنائية، تهيئ لعالم آخر يدخلك فيه القاص من خلال الوصف الذي يجعلك تفارق هذا العالم لتشاركه عالمه. ربما الدمية هي الكرة الأرضية، أو ربما تحولت لبشري يشاهد مظاهر حركة وصراع الناس، ويسخر منها ص34. في قصة "ابتعاد خفيف" تهيئ القصة منذ بداية السرد للذهاب بالقارئ إلي منطقه أخري وكأن القصاص يصنع تعاويذه السحرية بالكلمات لينفذ بنا من صلابة حائط الواقع لمنطقة نفسية أخري رخوة ومتحركة، وجود مفارق، مثل أن يقول:"الجو مختنق برطوبة عالية، والرؤية في الأفق ظهرت بها موجة خفيفة، تتجلي علي منزل كوبري معدني، ليبدو مثل الزحاليق التي تنحدر إلي حمامات السباحة."37.
منطقة مابين الحلم والحقيقة أيضا في قصة "رقص السنة" بداية من الاسم، ثم إبراز مخيلة الطفل ومرجعياته التي تعود للسينما أو قراءاته التي تحكمها البكارة والدهشة في مشهد المفتتح ص29، ثم الوعي بضآلة المتحقق مقارنة بالخيال ومشاهداته من السينما وما يترتب علي الرؤية البصرية من خيال أكثر اتساعا في مقابل فقر المتاح الواقعي، ووصف تفاصيله التي توحي بتواضعه، رغم أنه تظل له جمالياته الخاصة التي تفصح في دلالتها العميقة عن نوع من الرضي الإنساني السمح والقادر علي تكيف الذات مع الواقع .
يتضافر هذا أيضا مع تراكب الصور الذهنية المتخيلة تجاه العالم في "رقص السنة" التي تفضي إلي خلق هذا العالم المنسوج بالحلم والأسطورة، كأن السرد يخلق ذوات منعتقة من حدود إمكانات الواقع يقول وهو يتحدث عن بابا نويل:" مرة جاء بطاحونة هواء..كانت مشغولة من رقائق خشب أصفر، لتشبه برج حمام.. اضعها علي سور البلكونة المغطي بالجير أيضا وأجعل اللوح في مواجهة أشعة الشمس" 31.
وعندما يعبث الإنسان في الحلم ويبدأ في فض مغاليقة تفسد الأشياء وتلك إحدي نهايات القصص المفتوحة التي تغلب علي المجموعة.
أثيرية السرد القصصي:
كيف يبدع القصاص سرده ليلتقط شعرية القص الأثيرية تلك التي لا تفصح عن ذاتها إلا بكونها خلفية غائمة وبعيده في تقنيات السرد، لو افترضنا أن كل قصة من قصص المجموعة لوحة تشكيلية لشخصية أو مدينة أو فكرة لكانت خلفية هذه اللوحة شعاع بعيد أو بؤرة إضاءة تمثل الشعرية الناعمة، طيف الإنسانية التي تومئ بها القصص، مثل ألوان بينية سحرية، تكثيف الإضاءة علي زوايا محددة من اللوحة التشكيلية، خلق عالم تنبعث به إضاءات خافتة لكنها مؤثرة بالحياة.
يستهل هشام أصلان مجموعته بسردية عميقة الشعرية في "العلامات المستديرة" وفيها يقدم ذاته المبدعة علامة جديدة تبحث عن خصوصيتها، ومن ثم وجودها المتفرد، خاصة لأنه ورث علامة أصيلة حفرت في تاريخ الوجدان المصري، فإذا به يعلن حنينه وانتماءه، لكنه يستحث علامته الخاصة في التشكًل، دائرة جديدة، يقول:" العلامات المستديرة/ التي تتركها أكواب الشاي والقهوة/ علي الأسطح الخشبية، لاتشوه الأماكن./ سوف تصير، بعد سنوات، سببا للدفء، الحنين، وربما الطمأنينة./ ليت الأمهات يتركنها لأطفالهن./ سينشغلون بمحاولة وضع أكوابهن مضبوطة علي العلامات./ لكنها،/ في الغالب،/ سوف تصنع دوائر جديدة." ص11" العلامات المستديرة فكرة الأجيال والمغايرة المجدولة بالحنين والاحتياج للقديم، وهو ما أراد هشام أن يفك اشتباكه منذ لحظة وعيه الإبداعية الجديدة.
كما تتميز سردية المجموعة بوطأة وجود بعض الدوال الحسية التي تلعب علي حواس الإنسان التي يستقبل الحياة بها مثل الرائحة، الصوت، النظر وخاصة فيما يتعلق ببعض الالتفاتات الغرائزية المتعلقة بأنوثة المرأة وجسدها، تلك المداخل المادية تلتقط العادي واليومي من الأحداث وتضخ بها فلسفة وجودية إنسانية تلتقط لحظات التوتر الحسية بحياة النماذج البشرية منذ الطفولة وتدرجا بمراحل الحياة، وهي إذ تفعل لا تجد غضاضة لدي المتلقي لأنها تأتي عبر سياقها الإنساني الطبيعي، يقول في شروخ وهمية :" تعرف الابنة الوسطي إني اشتهيها.. تهمل إحكام جلبابها أثناء الجلوس علي الأرض، لأري ملتقي ساقيها الممتلئتين الخمريتين.." 53،،54 كما في قصته "علي واجهة السبيل".
التقاط العادي من الأحداث وضخ المعاني البعيدة والعميقة بها، بالأشياء، بجوهر الإنسان وغرائزه ويشكل هذا ملمح رئيس بالمجموعة، ثم تحميلها بمعني وجودي فلسفي يختص بالتكوين المركب للإنسان بداية من الذاكرة التي تحمل طفولته بأحلامها المنطلقة، لاوعيه وما ترسب فيه من إنحناءات نفسية فارقة، الأساطير والحكايات القديمة والألعاب منذ الطفولة، اللاوعي الجمعي بكل ما يكتنزه من موروثات مجتمعية.
في "الغرف الإضافية" هناك إشارات لثقافة العشوائية التي بدأت مع العصر الساداتي التشوه في المكان وفي الشخصيات ذاتها، الحياة الرخيصة التي تستهلك سريعا، في الغرف الإضافية كأنها حياة تقترن بالموت والولادة واحتفال بأعياد الميلاد، الكبير والصغير ضمن منظومة الحياة، النساء والرجال، ذات الزحليقة الحقيقة الواحدة كيف يراها الأب وكيف تراها الصغيرة ابنته؟ تلك الثنائيات في حالة من التعايش والتواجد في دائرية الزمن.
الجدار الأيمن علي المحارة، باب معدني متهالك لمصعد، تلعب الكناية والرمز وبعض من المجاز الذي لم تسرف فيه لغة المجموعة دور في تكثيف بعض علامات حياة الشخوص مثل الطبقة، الواقع السياسي والاقتصادي، المستوي الثقافي، ففي قصته "أصوات الممر" يختصر ويكثف القصاص الحكي باستخدام شذرات وإشارات وصفية ليشير إلي دلائل يستطيع المتلقي أن يكمل معه منظومة إبداع سرديته، يقول"فكرت في كيفية أن يذهب عن الواحد كرشه الكبير بسبب الإعياء ثم يظل بطنه دون ترهلات تذكر" ص14
ربما تبدو الحياة في "أصوات الممر" هذا الممر الطويل للمستشفي في وطن تتحكم به منظومة من الفساد، العطن الذي يتصاعد من رائحتها عطن لا يستحوذ علي الإنسان في طفولته وشبابه لكنه يتحكم به عندما لا يقوي علي ثقل الأمل في أوطان لا تكترث بالإنسان، وربما المصعد هو رحلة النهاية حيث يصعد الإنسان إلي يأسه.
يستخدم القصاص أيضا تقنية حلم عبثي يصور السارد فيه نفسه وهو ممسكا بسنارة يصطاد بها بعض الأسماك من "قصرية" كناية عن النفايات المتعددة بهذه الحياة.
منذ المفتتح الذي يختاره الكاتب يقول فيه:"أنا من يفتح الأبواب، ولا يعرف كيف يغلقها، وينام" لسركون بولص ونحن أمام حالة إبداعية مميزة تتحري إشارات إنسانية أثيرية في القص كما تتخير أن تبقي نهاياتها مفتوحه كانفتاح هذا العالم واندياح العلاقات به، وتنوعها المثير للفروق الدقيقة بين كل حالة والأخري.
تتراوح النهايات بين نهايات مفتوحة في أغلب قصص المجموعة وهناك نهايات بينية تنم عن توزع الانتماء في قصة "ابتعاد خفيف" وضياع ملامحه.
في الجزء الثاني من نص "ثلاث كؤوس أخيرة" هناك عودة زمنية لزمن الحدث الأول حيث ذكرياته مع والده بعد أن كان القصاص قد تجاوزه في الجزء الأول من القصة، تلك العودة لا تأتي عبثا بل تدل علي مفارقة ساخرة من شخصية السارد، كما أنها تشتبك نقديا مع واقع وموروث ديني يتحكم في واقع آني بمد أصولي غليظ الوطأة. في النص الأول "أصوات الممر" الحلم يقوم باللعبة الزمنية" في "علي واجهة السبيل" هناك انتقالات زمنية لأزمنة القص سريعة وخاطفة لتلتقط نقاط توتر محددة وتترك فراغات سردية متعددة من حق القارئ وقتها أن يملأها بمخيلته أو تظل شاغرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.