أكاد أجزم أن أكثر المتفائلين في العالم لم يتوقع منذ أيام قليلة أن قمة دولية للسلام يمكن أن تنعقد في شرم الشيخ برئاسة مشتركة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبمشاركة قادة وزعماء عشرين دولة، أو حتى أن يتم وقف الحرب في غزة والتوقيع على المرحلة الأولى من خطة ترامب. كان المشهد منذ أيام قليلة بالغ القتامة، اجتياح إسرائيلي لمدينة غزة وتوسع مفرط في استهداف المدنيين وخطاب إسرائيلي متشدد يتحدث عن انتصار يريده نتنياهو ساحقًا ونعرة عنصرية لليمين الإسرائيلي تصب المزيد من النار، حتى مع إعلان الرئيس الأمريكي عن خطته للسلام ظل التفاؤل مشوبًا بالحذر، ولكن ما أن أُعلن عن عقد المفاوضات في مدينة شرم الشيخ و تكشف النقاب شيئًا فشيئًا عن تحركات مصرية مكثفة في إطار إنهاء الحرب حتى جرى إتمام الاتفاق وعمت حالة من الارتياح العالم بأسره. لا يبالغ أحد عندما يقول أن جميع خيوط القضية الفلسطينية تتجمع في يد أجهزة الدولة المصرية، وفي المقدمة منها المخابرات العامة المصرية، وأنها الجهة التي تمتلك التقدير الأدق للموقف على الأرض فيما يتصل بالشأن الفلسطيني من بين كل أجهزة الاستخبارات في العالم، وذلك فضلاً عن درايتها الواسعة بعقلية المفاوض الإسرائيلي، لذلك لم يكن نجاح المفاوضات التي جرت تحت رعايتها مستغربًا أبدًا. ليس هذا تغزلاً في الدور المصري، وإن كان هذا هو الزمان والمكان المناسب وتلك هي اللحظة التي تقتضي ذلك، ولكن هذه السطور تأتي في إطار رؤية تحليلية أعمق لأبعاد وحدود الدور المصري في إعادة ترميم التصدعات في الشرق الأوسط عقب الطوفان وتوابعه التي تواصلت على مدار عامين. رمزية المكان وتصويب المسار
في هذا السياق، فإن قمة شرم الشيخ لا يجب أن ينظر لها بوصفها حادثًا رسميًا عاديًا أو عابرًا، ولكنها تعبير عن نجاح واضح لمصر في فرض رؤيتها لحل أزمات المنطقة، وفي المقدمة منها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. الرمزية تبدأ من المكان ومن المدينة التي احتضنت مفاوضات الحسم الأخيرة والتي استضافت على مدار تاريخها أكثر من قمة سلام، وتمتد الأبعاد والدلالات إلى بدء مرحلة جديدة في المنطقة ستشهد كبح جماح القوة الإسرائيلية المنفلتة وإعلان انهيار مخطط نتنياهو لما زعم أنها إعادة رسم لخريطة الشرق الأوسط. ومن رمزية المكان يجب التوقف عند إعادة بعث السلام الذي أرادت حكومة اليمين الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو دفنه إلى الأبد طوال عامين من الحرب الضارية على غزة، والتي توسعت رقعتها لتطال أكثر من دولة في الإقليم. مشاركة زعماء أكثر من عشرين دولة في مقدمتهم الرئيس الأمريكي ترامب في قمة شرم الشيخ للسلام هو اعتراف واضح بأن المدخل الوحيد لإزالة حالة الاحتقان الواسعة في الشرق الأوسط لا يمكن أن تتم إلا عبر الرؤية المصرية التي تقوم على أساس السلام الشامل والعادل وحل الدولتين مع قناعة بأن غطرسة القوة الإسرائيلية لن تفعل شيئًا سوى مفاقمة الأزمات. خطوط القاهرة الحمراء
النجاحات التي لا تعد ولا تحصى التي حققتها القاهرة، والتي تعرضت طوال عامين لحملات هجوم وتشكيك واسعة النطاق وصلت إلى حد تظاهر بعض منزوعي الوطنية أمام سفاراتها في الخارج، تتطلب تحليلًا دقيقًا للموقف المصري وتطوره منذ اندلاع طوفان الأقصى وما تبعه من هجوم إسرائيلي وحشي على قطاع غزة ومحاولات لتهجير سكان القطاع وتصفية القضية الفلسطينية للأبد، ووصولًا إلى تخاريف إسرائيل الكبرى وإعلان نتنياهو عن إعادة رسم الشرق الأوسط بعد حروب امتدت من لبنان إلى سوريا واليمن وإيران، وهجوم استهدف قيادات حماس في الدوحة. أعلنت القاهرة مبكرًا خطوطها الحمراء ولاءات قوية لم تتراجع عنها: لا للتهجير، ولا لتصفية القضية الفلسطينية، ولا للاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة، ولا لوجود جيش الاحتلال في معبر رفح. لم يكن غريبًا وسط هذا كله أن يكون صوت مصر على لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي هو الأقوى في القمة العربية ببغداد وفي القمة العربية الإسلامية بالدوحة بل وفي كل المحافل الدولية. لم تقتصر رسائل مصر على حدود الشجب والإدانة، وإنما وصلت إلى ذروتها عبر وصف إسرائيل بالعدو وتحذير الشعب الإسرائيلي من المخاطر التي تهدد اتفاقيات السلام بسبب السلوك الأرعن لحكومتها اليمينية. رسائل قوية وسيناريوهات متعددة
طوال عامين رفضت القاهرة محاولات جرها لمعارك جانبية، كما تعاملت بذكاء وعمق مع الاستفزاز الإسرائيلي، لكنها أوصلت الرسالة بقوة إلى كل من يهمه الأمر؛ مصر متمسكة بالسلام، لكنها مستعدة لجميع السيناريوهات، كما أنها لن تتنازل عن الخطوط الحمراء، ولن تقبل بمحاولات تصفية القضية الفلسطينية. على المستوى الرسمي، بدا خطاب وزارة الخارجية بقيادة الوزير بدر عبد العاطي متوازنًا ومعمقًا؛ فهو باستمرار يركز على تحميل الاحتلال المسؤولية عن تفجر الأوضاع في المنطقة، والحقيقة أن بيانات وزارة الخارجية على مدار عامين من الحرب في قطاع غزة تستحق دراسة مفصلة. على المستوى الإغاثي، ظلت مصر تضغط بكل قوة من أجل انسحاب الجيش الإسرائيلي من الجانب الفلسطيني من معبر رفح من أجل إعادة تشغيله بصورة كاملة. كما تواصلت قوافل العزة من مصر إلى غزة في أصعب الساعات. أمام صلابة الموقف المصري، أدركت دوائر صنع القرار الأمريكية مع الوقت أنه لا حل للوضع في الشرق الأوسط إلا عبر القاهرة، وأن الضغوط مهما بلغت قوتها لن تجدي نفعًا مع رفض مصري كامل للتهجير، لذا لم يكن غريباً أن يسعى الرئيس الأمريكي ترامب إلى التراجع الكامل عن التهجير والانصياع لرغبة مصر وقوى المنطقة الفاعلة لإعادة تعمير قطاع غزة من أجل ضمان نجاح مبادرته في الشرق الأوسط. مصر، مهما كان حجم الأعباء الداخلية والخارجية التي تكابدها، إلا أنها تنهض كالعملاق في القضايا الكبرى لتذود عن أمتها. اسألوها عنها التاريخ من عين جالوت إلى السادس من أكتوبر، وإذا لم يكفكم التاريخ فحاولوا استيعاب دروس الجغرافيا