هل من الممكن لعمل فني أن يقتحم قدسية "كوكب الشرق" دون أن يفقد هيبتها؟ هذا هو الإنجاز الذي حققته مسرحية "أم كلثوم: دايبين في صوت الست". لم يكتفِ هذا الإنتاج بتكريم الأسطورة، بل قدم تجربة مسرحية غير مألوفة تجاوزت كل التوقعات، وأعادت تشكيل مفهوم العروض الغنائية الجماهيرية. بعد مشاهدتي للعرض، تأكدت أن هذا العمل، من تأليف الدكتور مدحت العدل وإخراج المايسترو أحمد فؤاد، ليس مجرد إنتاج مسرحي، بل هو مشروع فني رائد. لقد استثمر فريق العمل في طاقات جيل جديد من الممثلين الواعدين، الذين تخرج أغلبهم من أكاديمية الفنون، وقدموا عرضاً مدعوماً بتكنولوجيا وإخراج مذهل يعد نقطة تحول في المسرح العربي، مما يرسم ملامح واضحة لما يمكن أن يطلق عليه مستقبل "الأوبرا المصرية". النجومية الجماعية: جيل يُبهر على الخشبة تميز العرض بكونه احتفالية بالموهبة الشابة. لم يكن مجرد عرض بطولة لشخص واحد، بل تضافر مجهود جماعي لنجوم الغد. قادت هذا التوهج الفنانة الشابة سلمى عادل التي تولت مهمة تجسيد الأيقونة الكلثومية، ببراعة أدائية وغنائية تنبئ بقدوم نجمة قوية. أحاط بها نخبة من الفنانين الصاعدين، منهم عمر صلاح الدين، ومحمد محسن، وهشام جمال، الذين قدموا جميعاً أداءً قوياً ومتقناً على مدى فصول العرض. هذه المواهب، التي أكدت الدكتورة غادة جبارة (رئيس أكاديمية الفنون) أنهم من طلابها وخريجيها، أظهرت قدرة هائلة في التمثيل، والحركة، والغناء، مما يؤكد أن الاستثمار في هذا الجيل هو مفتاح استدامة الفن الراقي. الإبداع لم يقتصر على الممثلين؛ فقد أضاف الملحنان الشابان خالد الكمار وإيهاب عبد الواحد بعداً موسيقياً متجدداً بتأليف ألحان ومقطوعات خاصة للعرض، في خطوة لتأصيل دور الشباب في تجديد المحتوى الكلاسيكي. الخلفية المسرحية كانت بنفس مستوى الجودة، حيث كان الديكور من إبداع محمود صبري، في حين صممت ريم العدل الأزياء كعنصر فاعل في السرد الدرامي. هذا التناغم التقني والفني أدى إلى عرض لم يشهده المسرح العربي من قبل، ليصبح كل فنان شاب فيه بصمة فنية راسخة للمستقبل. تحليل النص: العدل يُنصف الإنسان والمبدعين العمود الفقري للعمل هو نص الدكتور مدحت العدل، الذي اتسم بالعمق الإنساني. لم يسرد العدل الأحداث فقط، بل ركّز على جوانب أم كلثوم كشخصية – إنسانة بسيطة وعظيمة – قبل كونها ظاهرة فنية. لقد تعامل مع قصتها بحيادية تامة، مستنداً إلى الوثائق، ومُبعداً العمل عن أي تجميل أو تزييف، فكان إنصافاً تاريخياً وإنسانياً لكوكب الشرق. تميز النص أيضاً بتقديم تكريم مستحق لشركاء مسيرتها الخالدة؛ سواء كتابةً مع أحمد رامي، أو تلحيناً مع محمد القصبجي ورياض السنباطي. هذا الوفاء من العدل، بصفته رئيساً لجمعية المؤلفين والملحنين والناشرين (ساسم)، يرسخ مبدأ الاعتراف بقيمة الكلمة واللحن. امتد الإنصاف ليشمل منافسيها مثل منيرة المهدية ومحمد عبد الوهاب، بالإضافة إلى عائلتها وشخصيات أدبية تأثرت بها، مما أظهر فهماً موسوعياً وراقياً لتاريخها. تقنيات الإبهار: رؤية أحمد فؤاد المُجددة تحت قيادة المخرج العبقري أحمد فؤاد (الذي تلقى تدريبه على يد عمالقة كخالد جلال)، تحول العرض إلى سيمفونية بصرية وحركية. فؤاد، الذي يمتلك خبرة في المسرح الأوبرالي والاستعراضي، استخدم أحدث التقنيات الرقمية، ومزج الواقعي بالافتراضي بسلاسة مدهشة، خلق إيقاعاً سريعاً ومفاجئاً على الخشبة. كان الإخراج أشبه بإدارة أوركسترا متكاملة تضم الممثلين والتقنيين والجمهور نفسه. هذا الإتقان، بمساعدة فريق المخرجين المنفذين وعلى رأسهم محمد مبروك، يضع العرض في مصاف الإنتاجات العالمية. هذا العمل، بتفاصيله وحيويته، يجعله مؤهلاً بقوة ليكون الوريث الشرعي لأعمال كبرى مثل "أوبرا عايدة"، ومحققاً للنجاح الذي لم يتمكن الفيلم السينمائي الذي حمل نفس الاسم من تحقيقه. ملاحظات نقدية: تحديات الخدمة والقفزات الدرامية بالرغم من الإشادة المطلقة بالإنجاز الفني، لا بد من رصد بعض الجوانب التي تحتاج إلى تصحيح لتحسين التجربة الكلية للجمهور: * التنظيم والخدمات الجماهيرية: أدى الزخم الهائل في الحضور إلى الكشف عن ضعف في الترتيبات اللوجستية. كان هناك ازدحام في الأماكن المخصصة للجمهور، وانعكس ذلك سلباً على مستوى الخدمات المقدمة، تحديداً في فترات الانتظار والاستراحة، حيث كانت هناك شكاوى من تدني مستوى الخدمة في توفير المشروبات ودورات المياه، مما أخل براحة المشاهدين. * الخيارات الفنية والنص: فكرة ارتداء اللون الأسود في مشهد النهاية (وفاة أم كلثوم) كان يمكن أن تكون أقل حدية، حيث كان من الممكن استبداله باللون الأبيض أو مزيج منهما ليعكس فكرة الخلود بدلاً من مجرد الموت. كما سُجلت ملاحظة حول الانتقال المفاجئ من مشاعر الحزن والوقار المصاحبة لسنواتها الأخيرة، إلى مشهد صاخب ومبهج. هذا القفز الدرامي كان يفتقر إلى تمهيد كافٍ، ويُحتمل أنه استهدف بشكل مباشر استقطاب شريحة الشباب بإيقاع سريع يواكب تطلعاتهم. خلاصة القول: مشروع فني خالد يمثل إنتاج "أم كلثوم: دايبين في صوت الست" علامة فارقة في المشهد الثقافي المصري. إنه ليس احتفالاً بالماضي فحسب، بل هو برهان على قدرة جيل جديد من المبدعين على تقديم فن بمواصفات عالمية، بداية من الأداء التمثيلي وحتى التقنيات الإخراجية الحديثة. هذا المزيج، المدعوم بعبقرية نص مدحت العدل، يمنحنا مشروعاً فنياً ضخماً يليق بعظمة الأسطورة. لقد غادرنا المسرح ونحن على ثقة بأننا شاهدنا أي قونة مسرحية جديدة لمصر، وستحصد نجاحاً عالمياً يُضاهي الأعمال الأوبرالية الكبرى.