المتأمل في مدينة الرياض انها ليست كسابق عهدها قبل عقدٍ أو عقدين، مدينةً تنبض بالإسمنت وحده وتسعى خلف المشاريع الكبرى فحسب، بل أصبحت اليوم بحق مدينة تُعيد تعريف الثقافة، وتعطيها ملامح عصرية سعودية الهوية عالمية الأفق. هذا التحول لم يأتِ مصادفة، بل هو ثمرة رؤية واعية جعلت الثقافة ركيزة من ركائز التطور الوطني، تتبناها وزارة الثقافة عبر هيئاتها المختلفة التي رسمت للرياض ملامح جديدة، يلتقي فيها الإبداع مع الحياة اليومية. أصبح معرض الرياض الدولي للكتاب النموذج الأوضح والأجمل لهذا التحول؛ فهو الحدث الذي يختصر روح العاصمة الجديدة: الانفتاح، والتنوع، والاحتفاء بالمعرفة، وأعطى تأكيدًا إلى أن الرياض لم تعد فقط مركز القرار، بل مركز الإلهام أيضًا، من المعارض الفنية التي تزهر على جدرانها، إلى المهرجانات الموسيقية، مرورًا بالندوات الأدبية التي تُعيد الاعتبار للكلمة. كنتُ قبل أيام أتجول بين أجنحة المعرض، ولاحظتُ أن الكتاب لم يعد مجرد سلعة فكرية تُعرض على الرفوف، بل صار جسرًا يربط الناس ببعضهم، حيث ترى القارئ يناقش الكاتب، والطفل يختار كتابه الأول، والشابة توقّع إصدارها الجديد أمام جمهور من المتابعين. مشهد كهذا لم يكن مألوفًا في الرياض قبل سنوات، لكنه اليوم واقعٌ يتكرر، ويؤكد أن الثقافة صارت فعلاً اجتماعياً واسعاً، لا نخبوياً محدوداً. ما يحدث في الرياض هو أكثر من ازدهار ثقافي؛ إنه تحول في وعي المجتمع نفسه. فالكتاب الذي كان يومًا ما ترفًا أصبح حاجة، والندوة التي كانت نخبوية صارت مساحة للحوار العام، مما يقودنا اننا بصدد التوجه إلى هذا الوعي الجديد يعيد للمدينة مكانتها الطبيعية كعاصمةٍ تليق بفكرها وتاريخها. إنني أرى في هذا المشهد ولادة مدينة جديدة، تؤمن بأن البناء الحقيقي يبدأ من بناء الإنسان، وأن مستقبلها لا يُرسم فقط بالخطط والمشاريع، بل بما تحمله العقول من فكر وما تضيئه الأرواح من جمال، ولهذا، حين يُقال اليوم إن الرياض منارة ثقافية، فذلك ليس وصفًا مجازيًا، بل حقيقة تُرى وتُعاش في كل فعالية، وكل كتاب، وكل ابتسامة قارئ خرج من المعرض وهو يحمل بين يديه حلمًا جديدًا.