الفوز غير المسبوق الذي حققه الدكتور خالد العناني، ليكون أول مدير عام مصري أو عربي لمنظمة اليونسكو، يمثل أحد أهم التجليات التي تعكس نجاعة الدبلوماسية المصرية، والتي لعبت دورا رئيسيا في الترويج إلى مرشحها بين مختلف دول العالم، وهو ما بدا واضحا في عدد الأصوات الكبيرة التي حصل عليها ليحصد نسبة غير مسبوقة في تاريخ المنظمة التابعة للأمم المتحدة، بينما عكست في اللحظة ذاتها قوة المواقف العربية الموحدة، والتي وضعت الإجماع على المرشح المصري كأحد البنود المهمة في مختلف الاجتماعات الرسمية، سواء على المستوى الوزاري أو القمة، تحت مظلة جامعة الدول العربية، وهو ما يمثل امتدادا صريحا للمواقف الجمعية، التي تعزز البعد العربي على خريطة السياسة الدولية. ولعل الإجماع الإقليمي والدولي على شخصية مصرية بارزة، لتقود اليونسكو، في لحظة محورية حساسة، دليل دامغ على إدراك كبير بما تحمله بلاده من إرث ثقافي، يمكن من خلاله حماية ليس فقط التراث العالمي، من المخاطر المحدقة به، وإنما أيضا يعد بمثابة تفويض لحماية ما يمكننا تسميته ب"المؤسساتية" الثقافية، في عالم بات يحارب المؤسسات، في ضوء التنافس الكبير بين أقطابه، وهو ما لا يقتصر على الخصوم التقليديين، على غرار الولاياتالمتحدة وروسيا والصين، وإنما بات ممتدا إلى ما هو أبعد من ذلك عبر تفتت المعسكرات، خاصة في الغرب، بعد خروج قطاع كبير من دول أوروبا الغربية عن طوع واشنطن، جراء سياسات الأخيرة المناهضة لهم، سواء سياسيا أو اقتصاديا، وهو ما بدت إرهاصاته منذ ولاية الرئيس دونالد ترامب الأولى. الحقيقة التي لا جدال فيها، أن اليونسكو، رغم كونها منظمة مرتبطة بالتراث العالمي، تحمل في طياتها بعدا سياسيا، باعتبارها قائمة على العلاقة بين الحكومات، وهو ما يبدو في قرار الانسحاب الأمريكي من المنظمة، في ظل عجز واشنطن على ترويضها، على خلفية القرار بالاعتراف بمواقع التراث الفلسطيني، في صفعة ثقافية للاحتلال تضاف إلى سلسلة من الصفعات المتواترة منذ أحداث السابع من أكتوبر، بينما حمل القرار الأمريكي بعدا آخر، تجلى في حالة من التنافس غير المعلن الحلفاء في أوروبا الغربية، وعلى رأسهم فرنسا، حيث يبقى وجود المنظمة المسؤولة عن الثقافة في العالم في باريس أحد مصادر النفوذ بالنسبة لها، وهو ما تسعى واشنطن إلى تقويضه، في ضوء طموحات الرئيس إيمانويل ماكرون في استعادة جزء من التأثير الذي تحظى به بلاده ومن ورائها أوروبا الموحدة. الطموحات الفرنسية، ظهرت بجلاء عندما دعا الرئيس ماكرون إلى بناء جيش أوروبي موحد، خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، وفي وجوده ليكون بديلا للناتو، ردا على التقلبات الكبيرة في السياسات الأمريكية، في أعقاب الدعم الكبير من قبل واشنطن لبريطانيا مقابل الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبرته فرنسا وغيرها من القوى الأوروبية بمثابة تخليا مباشرا عن الحلفاء، سوف يعقبه خطوات أخرى. المحاولات الأمريكية لتجريد باريس من نفوذها بدأت في الولاية الأولى للرئيس ترامب عندما انسحب من اتفاقية باريس المناخية، وخرج منها مجددا بعدما أعاد الرئيس السابق جو بايدن عضوية بلاده بها في 2021، ، وبالتالي فلا يمكن النظر إلى الانسحاب الأمريكي من اليونسكو، وإن كان يحمل أبعادا أخرى، بعيدا عن الموقف الأمريكي المباشر تجاه فرنسا. التزامن بين المعطيات سالفة الذكر، من جانب، ووصول دكتور العناني إلى رأس المنظومة المعنية بالتراث العالمي، بأغلبية 55 صوت من أصل 57 صوت، يمثل إيمانا دوليا بالحاجة إلى شخصية لديها من المؤهلات والخبرات، والعلم بل والأهم الجذور التاريخية، لتقود حملة دولية لحماية الإرث الثقافي العالمي، تحت غطاء مؤسساتي دولي، فالتراث ليس ملكا لأصحابه فقط، وإنما في واقع الأمر يبقى مرتبطا بكل باحث ودارس ومثقف في كل أنحاء العالم. الثقة الدولية الكبيرة بالدكتور المصري خالد العناني، هو امتداد لمواقف سابقة تجاه الدولة المصرية، فقد سبق وأن استلهمت قوى كبرى نهجها في الحرب على الإرهاب خلال السنوات العشرة الماضية، كما سبق وأن التفت حولها في إدارة الحرب الدائرة في غزة قبل عامين، عبر اعترافات متواترة بالدولة الفلسطينية، قوضت دعوات إسرائيل المشبوهة لتصفية القضية، وانتهاك الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وكان الإعلان في الكثير من الأحيان عن خطة الاعتراف من أرضها، أو على الأقل في أعقاب زيارات مسؤوليها وتفقدهم للأوضاع في الجانب المصري من معبر رفح، وهو ما يعكس رؤية عالمية قائمة على قدرة مصر على الاحتفاظ بالاستقرار الإقليمي، والذي بات مرتبطا بالأوضاع الدولية في صورتها الجمعية، وبالتالي تبقى الحاجة ملحة إلى دور مصري للحفاظ على التراث العالمي في إطار اليونسكو، وهو ما يمكن أن يتحقق عبر شخصية تمثل امتدادا لدبلوماسية عريقة ومتزنة. اختيار الدكتور العناني في اللحظة الراهنة، يعيد إلى الأذهان مواقف تاريخية، منها ترشيح الدكتور بطرس غالي في منصب الأمين العام للأمم المتحدة، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وهو ما جاء في لحظة دولية حساسة ينهار فيها الاتحاد السوفيتي، وتدشن فيها واشنطن حقبة الهيمنة الأحادية، وهو ما يمثل تكرارا للحظة في ظل التغييرات الكبيرة التي تطرأ على النظام العالمي، مع صعود قوى منافسة للولايات المتحدة، ودعوات إلى نظام عالمي تعددي، بعيدا الهيمنة المطلقة لقوى بعينها على حساب القوى الأخرى. وهنا يمكننا القول بأن الفوز الكبير للدكتور العناني، ليحظى بثقة العالم في قيادة اليونسكو، انعكاسا لنجاعة الدبلوماسية المصرية، ليس فقط في إطار الحشد للتصويت لصالح المرشح الذي ينتمي لها، في الإطار السياسي التقليدي، وإنما في واقع الأمر لقدرتها في إدارة الدبلوماسية الثقافية، في ضوء ما تتعرض له من مخاطر في الآونة الأخيرة، تجلت في أحد المسارات مع بزوغ الجماعات المتطرفة في منطقة الشرق الأوسط ودعواتهم لهدم المناطق الأثرية، ثم امتد الأمر نحو استهداف دولي للمؤسسات الثقافية ذاتها، على خلفية الصراعات الدولية، التي باتت تميز اللحظة الراهنة في التاريخ العالمي.