على الرغم من كونها حدث سنوي، إلا أن قمة منظمة شنغهاي للتعاون حظت بحالة من الزخم الكبير في نسختها الأخيرة، والتي عقدت الأسبوع الماضي، في الصين، في ظل الحضور الكبير واللافت لزعماء بارزين، من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الهند نياندرا مودي، ورئيس تركيا رجب طيب أردوغان، ناهيك عن الحضور الملفت لزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون، والذي يبقى ظهوره خلال القمة، أو على هامشها حدثا بارزا، ليس فقط لأنها الحدث الأول من نوعه الذي انعقد خارج بيونج يانج ويشارك به، وإنما أيضا لأن بلاده ليست عضوا في المنظمة من الأساس، وهو ما أثار التساؤلات حول أسباب حضوره، بل ودفع الرئيس ترامب نحو الحديث عما أسماه "مؤامرة ثلاثية"، بين الصينوكوريا الشماليةوروسيا. ولكن بعيدا عن حديث المؤامرة، وما أثاره حضور الزعيم في القمة، يبدو حضور الهند وتمثيلها من قبل رئيس الوزراء، وهو أعلى مستوى تمثيل، ولقاءه مع الرئيس الصيني شى جين بينج، من المفارقات المهمة، خاصة مع التنافس الكبير بين بكين ونيودلهي، ومحاولات واشنطن لاستقطاب الهند، في إطار الصراع مع الصين، ليصبح وجود مودي بين الزعماء في مدينة تيانجين الصينية، مثيرا للتساؤلات، حول ما إذا كانت الهند آثرت الشراكة مع الصين على حساب التحالف مع الولاياتالمتحدة، خاصة وأن صعود الدور الذي تقوم به تلك المنظمات، يمثل تهديدا مباشرا للغرب، أو بالأحرى للقيادة الأمريكية للعالم، في ضوء تراجع الدور الذي تقوم به المنظمات التي تحظى بهيمنة الولاياتالمتحدة، منذ عقود، وعلى رأسها الأممالمتحدة. الحضور الهندي في قمة شنغهاي، يعكس نجاعة النهج القائم على الشراكة، ليس في إنهاء الخلافات، وحل الأزمات، بين الدول، وإنما في احتوائها، بحيث تبقى تحت السيطرة، عند مستوى معين، دون تصعيد، خاصة مع تراجع الدور الذي تلعبه التحالفات في صورتها التقليدية، خاصة وأن الأخيرة تقوم في الأساس على العمل تحت قيادة موحدة، وهو الأمر الذي يبدو متعارضا إلى حد كبير مع طموحات العديد من القوى الدولية والإقليمية، في الآونة الأخيرة، والتي تسعى بصورة كبيرة نحو المشاركة في صناعة القرار الدولي، وصياغة مستقبل أقاليمها الجغرافية، وبالتالي لم تعد فكرة الدوران في فلك معين، حتى وإن كان الفلك الأمريكي نفسه، مقبولة خاصة من قبل القوى الصاعدة، وعلى رأسها الهند. الشراكة على النطاق الإقليمي ليست بالنهج الجديد تماما، فقد سبق للعديد من القوى البارزة في عدة مناطق جغرافية وأن تبنته، وهو ما يبدو واضحا في الرؤية التي اعتمدتها الدبلوماسية المصرية، في السنوات الماضية، عبر شراكات داخل أقاليمها، وأخرى تجاوزت الجغرافيا التقليدية، وهو ما يعكس إدراكا واضحا بالتغيير الكبير الذي تشهده قواعد العلاقات الدولية خلال المرحلة المقبلة، خاصة مع خفوت النجم الأمريكي، وصعود قوى أخرى منافسة له، تسعى لمزاحمة واشنطن على عرش النظام الدولي. وبالعودة إلى حديث الرئيس ترامب عن المؤامرة، في إشارة إلى اللقاء الثلاثي بين زعماء روسياوالصينوكوريا الشمالية، نجد أن ثمة حالة من الغياب عن الواقع الدولي، بالإضافة إلى كونه يمثل ما يمكننا تسميته ب"الشيزوفرينيا" السياسية، فالرجل يرغب في تركيع حلفائه، وتقويض الأدوات الأمريكية، التي طالما ساهمت في تعزيز قيادتها للعالم، بينما يصف تقارب القوى الأخرى وشراكاتها القائمة على تعزيز المصالح المشتركة، على أساس نهج "الند بالند" بالمؤامرة، ناهيك عن كون الوصف نفسه متعارضا مع تقاليد السياسة الأمريكية، والتي تظهر دائما في صورة الطرف القوي الذي يملك زمام العالم، وبالتالي لا تقوى أي أطراف أخرى على التآمر عليه. "الشيزوفرينيا" الأمريكية تمتد إلى المخاوف من صعود تنظيمات دولية مناهضة لها ولمصالحها، سواء كانت شنغهاي أو بريكس، والتي طالتها تهديدات الرئيس ترامب عدة مرات، خلال حملته الانتخابية في العام الماضي، بينما يقوم بنفسه بإضعاف المنظمات التي شرعنت سياسات بلاده وقراراتها الدولية لعقود، وعلى رأسها الأممالمتحدة، وهو ما يبدو في انسحاباته المتواترة من المنظمات التابعة لها، ومنها اليونيسكو ومجلس حقوق الإنسان، وغيرهما، بل وتهديداته بالانسحاب من الأممالمتحدة، بينما كان قرار إدارته بحرمان الوفد الفلسطيني المشارك باجتماعات الجمعية العامة من تأشيرات دخول الولاياتالمتحدة، بمثابة ضربة قاصمة للمنظمة الدولية الأكبر، خاصة وأنه يقوض مصداقيتها، ويحرمها من أحقيتها في مناقشة أبرز القضايا العالمية، في اللحظة الراهنة، خاصة مع اقتراب العدوان على قطاع غزة من إتمام عامه الثاني. الحديث الأمريكي عن "المؤامرة" يتعارض مع سياسات التضييق على الحلفاء، والتي وضعت حليف، على غرار الهند، جنبا إلى جنب مع خصم تاريخي ككوريا الشمالية، على نفس المائدة، وهو نفس المأزق الذي تعانيه واشنطن، عندما تتحدث عن "صناعة السلام" بينما تتجاهل تحقيق العدالة الدولية، وهي كلها أعراض "شيزوفرينيا" سياسية، ربما تبدو من علامات "الشيخوخة" الدولية، إن جاز التعبير. وهنا يمكننا القول بأن القمة الأخيرة لمنظمة شنغهاي للتعاون لم تكن مجرد اجتماع سنوي للقادة، بل عرض حي لتغير موازين القوى في العالم، فحضور كوريا الشماليةوالهند جنبًا إلى جنب مع روسياوالصين يوضح أن القوى الصاعدة بدأت تشق طريقها في صياغة مستقبل النظام الدولي، بعيدًا عن الهيمنة الغربية التقليدية، فما يحدث ليس مجرد صراع نفوذ، بل تحول حقيقي في قواعد اللعبة، حيث لم تعد المنظمات الإقليمية مجرد أدوات ثانوية، بل أصبحت منصات لإدارة الأزمات، واحتواء النزاعات، وفرض الشراكات الاستراتيجية على أسس "الند بالند". في هذا المشهد، تبدو القيادة الأمريكية تواجه اختبارًا وجوديًا، حيث لا يمكنها فرض إرادتها كما اعتادت، ولا يمكنها تجاهل صعود لاعبين جدد يملكون القدرة على إعادة تشكيل المصالح والتحالفات الدولية.