لم يكن السادس من أكتوبر يوما عابرا في التقويم المصري ولا مجرد رقم في سجل الانتصارات العسكرية بل كان لحظة فاصلة أعادت صياغة الوعي الجمعي لأمة كاملة وأثبتت أن الإرادة حين تصحو لا تعرف المستحيل. لم تنتصر مصر في أكتوبر بالسلاح وحده بل انتصرت بالكرامة التي استعادت مكانها في صدور أبنائها وبالإيمان العميق بأن هذه الأرض لا تُسترد إلا بالعزيمة والإصرار. لقد كانت المعركة على ضفة القناة تجسيدا لمعركة أعمق في داخل كل مصري معركة بين اليأس والرجاء بين الهزيمة والنهضة بين الحلم والواقع. فعندما دوّت صيحة العبور لم تعبر الدبابات وحدها بل عبرت معها روح أمة كانت تبحث عن ذاتها بعد أعوام من الانكسار والخذلان. كان أكتوبر هو الميلاد الثاني لمصر الحديثة ميلادا كتب بالدم والعرق والصبر لا بالحبر والخطب والشعارات. في تلك اللحظات التي تحولت فيها الرمال إلى نارٍ مشتعلة والمياه إلى طريق للكرامة أعاد المصري تعريف معنى البطولة. لم تعد البطولة مجرّد مغامرة عسكرية بل أصبحت وعيا متجذرا في عقل كل مواطن بأن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع. لقد أثبت الجندي المصري أن سلاحه الحقيقي لم يكن البندقية بل الإيمان بأن الله لا يضيع من صَدَق النية وسار في طريق الحق. كان نصر أكتوبر بحجم أمةٍ استيقظت بعد سبات وأدركت أن الهزيمة لا تكون حين يُكسر السلاح بل حين تنكسر الإرادة. لذلك كان العبور في جوهره عبورا نفسيا قبل أن يكون عبورا عسكريا. لقد انتقل المصري من خانة المتلقي إلى خانة الفاعل من خانة المنكسر إلى خانة الصانع للتاريخ. ولهذا لم يكن النصر مجرد رد اعتبار عسكري بل كان إعلانا عن عودة الأمة إلى الوعي بذاتها وبقدرتها على التحدي والبناء. في أكتوبر انتصرت مصر بالعلم قبل السلاح وبالتخطيط قبل التنفيذ وبالوحدة قبل القرار. كانت المعركة درسا في معنى التكامل بين القيادة والشعب ، بين الجندي في الميدان والعامل في المصنع بين الفلاح في الحقل والمهندس في المعمل. لقد كانت الأمة كلها في حالة حرب واحدة جبهة تمتد من أقصى الصعيد إلى ضفة القناة من قلب الأم المصرية التي تودّع ابنها بابتسامة الإيمان إلى يد الطبيب الذي يضمد الجراح في صمت وفخر. إن نصر أكتوبر لم يكن نصرا عسكريا فحسب بل نصرا حضاريا يعيد رسم علاقة الأمة بذاتها وبالعالم. فقد ألغى فكرة الاستسلام العربي أمام التفوق الغربي وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الثقة والإرادة والإبداع. كان النصر رسالة إلى كل من ظن أن هذه الأمة انتهت ، بأن جذورها ضاربة في عمق الأرض وأنها قد تتراجع لحظة.لكنها لا تنكسر أبدا. ولعل أعظم ما في هذا النصر أنه لم يكن انتصارا على العدو فقط بل على اليأس والشك والانهزام الداخلي. لقد استعاد المصري احترامه لنفسه قبل أن يستعيد أرضه واستعاد إيمانه بقدرة الدولة حين تتوحد على هدف وطني جامع. من رحم الحرب وُلدت طاقة بناء امتدت إلى كل المجالات: من الاقتصاد إلى التعليم ومن الصناعة إلى الثقافة لأن الشعور بالقدرة يولّد الرغبة في الإنجاز والرغبة في الإنجاز تصنع النهضة. حين ننظر اليوم إلى أكتوبر بعد أكثر من خمسة عقود لا نقرأه كحكاية من الماضي بل كرسالةٍ للمستقبل. رسالة تقول إن الأمم لا تُقاس بما تملك من موارد بل بما تملك من إرادة. وإن النصر الحقيقي لا يتحقق مرةً واحدة بل يتجدد كل يوم في معارك الوعي والعمل والبناء. فكما عبر المصريون القناة بالأمس يعبرون اليوم تحديات الاقتصاد والتنمية والتكنولوجيا بنفس الروح. أكتوبر لم يكن معركة حدود بل معركة وجود. لم يكن مجرد صراع بين جيشين بل اختبارا لإيمان أمة بأن الله لا يخذل من يسعى بصدق نحو الحق. لذلك يظل السادس من أكتوبر شاهدا على أن هذه الأمة مهما تعثرت أو تأخرت تملك في داخلها ما يجعلها تنهض دائمًا من رماد الهزيمة إلى ضوء الانتصار. إنه نصر بحجم أمة لا بحجم معركة.. نصرٌ تجاوز حدود الزمان والمكان لأن من يصنع التاريخ بالإرادة لا يخضع له أبدا. وفي كل مرة تشتد فيها العواصف يكفينا أن نعود إلى تلك اللحظة الخالدة لنستعيد الدرس البسيط العميق: أن مصر لا تعرف الهزيمة لأنها ببساطة لا تعرف الاستسلام.