منذ بدء العصور التاريخية، وتوصُل الإنسان المصرى إلى الكتابة، فإن أول ما دشنه كتابة ونقشا، شعار صار راسخا طوال التاريخ المصرى القديم، مفاده أن هناك صراعا كونيا أبديا بين الأمن والاستقرار والسلام والعدل، تقوده وتتبناه مصر، فى مقابل فوضى وأطماع يمثلها الأشرار والأعداء، وهى حقيقة راسخة متجذرة فى أعماق التاريخ، ومستمرة تتوارثها الأجيال، جيلا بعد جيل، وتظل محفورة على جدران الذاكرة، تستيقظها دائما لمحاربة لعنة النسيان، وتبرز أن مصر مستهدفة دائما ولم تغب عنها الأطماع، وأن قوتها وقدرتها وتماسك شعبها، مكنتها من مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية، وعواصف الأطماع على مر التاريخ، وهو ما استمر حتى كتابة هذه السطور. لذلك ليس من المستغرب أن تجد مصر أول من وقعت معاهدة سلام فى التاريخ، بين الملك رمسيس الثانى، وملك الحيثيين، «موجودة نسخة منها فى الأممالمتحدة»، ثم معاهدة السلام مع الكيان الإسرائيلى عام 1979. مصر تنشد دائما الأمن والاستقرار، ومارست دور رجل المطافئ الذى نذر نفسه لإطفاء كل الحرائق المشتعلة فى الإقليم، ولعبت منذ أكتوبر 2023 دورا بارزا ومحوريا لإيقاف الحرب الإسرائيلية البربرية فى غزة، ومنع تصفية القضية، ووقفت كحجر صلد لمنع التهجير القسرى للفلسطينيين، ورفضت كل الإغراءات التى لا تُرفض، لكن مبادئ مصر وكبرياءها وأمانتها وشرفها، ثم رسالتها منذ فجر التاريخ بأنها خُلقت لنثر الأمن والاستقرار، أبت أن تقبل مثل هذه الإغراءات. وخلال الساعات القليلة الماضية، تبين - بوضوح - جهود مصر فى التصدى لعواقب «طوفان الأقصى» والذى وصل إلى طرح مبادرة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لإيقاف حرب الإبادة فى غزة، وقبول الفصائل الفلسطينية بالمبادرة، ثم دعوة مصر لجميع الفصائل لتوحيد الصفوف، وتشكيل لجنة من الفلسطينيين لإدارة القطاع، فى علاج حقيقى وذكى لأى تشوهات فى مبادرة الرئيس الأمريكى، وإذا نجحت المبادرة فى إنهاء الحرب، فلا بد أن تُرفع القبعات للدولة المصرية ودورها القوى فى إيقاف مخطط إزالة غزة من فوق الخرائط. مصر دائما تستشرف المستقبل، وتمتلك حدسا مبهرا يتوقع كل الأحداث وتعد العدة له، وسط اندهاش الجميع، لذلك كان دفاعها عن حصتها المائية ببسالة، وتحذيرها من مخاطر بناء سد النهضة، ووضعت العالم أمام مسؤولياته، وللأسف لم يضطلع بها، حتى صار السد خطرا يوازى خطر القنابل النووية، وبمجرد وقوع خطأ فنى بسيط والمتمثل فى فتح البوابات دون دراسة وعلم، أو تنسيق مع دول المصب، أغرق السودان، للمرة الثانية، ورفع منسوب المياه ليغرق أراضى طرح النهر. مصر كانت تدرك حقيقة القدرات العلمية والفنية المنفذة لسد الخراب، وقدمت كل النصائح الأمينة ولم تمانع فى أحقية أى دولة أن تدشن مشروعات تنموية، بما لا يؤثر على الحقوق التاريخية لدول حوض النيل ومنها مصر، وأن يُبنى السد وفق المعايير العلمية والفنية الصحيحة، وطالبت الحكومة الإثيوبية بالجلوس إلى طاولة المفاوضات والاتفاق على الخطوط العريضة المحافظة على مصالح الجميع، وأبدت حسن النوايا، وأظهرت صبرا استراتيجيا طوال السنوات الماضية، فلم تجد سوى تعنت وتنصل الجانب الإثيوبى من مسؤولياته، ثم بُحّ صوتها داخل المؤسسات الدولية، وطرحت قضيتها العادلة على الجميع، ليتدخل، من باب أن السد خطر يمكن أن يزيل دولة السودان الشقيقة من فوق الخريطة، مخلفا كارثة إنسانية لا مثيل لها فى التاريخ، ولكن للأسف لم يستجب الكثير من الدول المؤثرة فى صنع القرار الإثيوبى، وجعلت ودنا من طين وأخرى من عجين، حتى وقعت الكارثة الحالية، وهى كارثة جزئية، مجرد فتح بوابات بطريقة عشوائية، فماذا لو انهار السد؟! الحقيقة أن تخوُّفَ مصر من القدرات العلمية والفنية، قد تحقق، وعندما طالبت بتشكيل لجان من الخبراء الفنيين لمراجعة أعمال بناء السد، رفض الجانب الإثيوبى طلبها، لكن أثبتت الأيام بُعد نظرها، وتحقق ما كانت تتخوّف منه، فى ظل غياب الشفافية وعدم الإلمام الكامل بطريقة بناء السد علميا وفنيا، وهل استخدمت فيه أحدث التقنيات من عدمه، لذلك كان رد مصر خلال الساعات الماضية، على تصرفات الجانب الإثيوبى من خلال بيان رسمى لوزارة الرى قالت فيه، إن التصرفات الأحادية التى أقدمت عليها إثيوبيا فى إدارة سدها تمثل خرقا للقانون الدولى وتهديدا مباشرا لحياة وأمن شعوب دول المصب، وأن مشغلى السد الإثيوبى خالفوا القواعد الفنية حين قلصوا التصريفات بشكل حاد فى أغسطس الماضى، قبل أن يعمدوا إلى تصريف كميات هائلة وغير مبررة عقب ما وصفته إثيوبيا باحتفال افتتاح السد فى 9 سبتمبر الماضى. مصر - على لسان وزير الرى - قال إن التصريفات غير المنتظمة بلغت ذروتها عند 780 مليون متر مكعب نهاية الشهر الماضى، ما أدى إلى «فيضان صناعى مفتعل» تسبب فى غمر أراضٍ زراعية وقرى سودانية، وهو ما أكدته تقارير مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية «OCHA». وشددت الوزارة على أن هذه الممارسات تكشف الطبيعة العشوائية لإدارة السد، وتؤكد صحة التحذيرات المصرية السابقة من مخاطره على دولتى المصب فى فترات الجفاف والفيضانات، لا سيما مع غياب اتفاق قانونى ملزم. الدولة المصرية استشرفت المستقبل، وأعدت العدة من خلال تطوير مفيض توشكى، والنهر الصناعى العظيم «ممر التنمية» وهويس إسنا وقناطر أسيوط وتبطين الترع، وغيرها من المشروعات التى ساهمت فى استيعاب الفيضان. مصر استطاعت وقف نتائج طوفان الأقصى، وفيضان النيل المصطنع، وأدركت مبكرا أن ربما سد النهضة لا يمثل مشروعا تنمويا لإنتاج الكهرباء، وإنما خطرا «استراتيجيا».