مثّل انسحاب الوفود الأممية من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة ما أن بدأ رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو خطابه صفعة أخرى لإسرائيل على المستوى الدبلوماسى الدولى. كان هذا الانسحاب تعبيراً عن ضجر المجتمع الدولى من أسلوب نتنياهو فى إعادة تدوير الأكاذيب الواحدة تلو الأخرى، سعياً لشيطنة الفلسطينيين وتبرير المجازر التى ترتكبها قوات الاحتلال يومياً فى قطاع غزة وسائر الأراضى الفلسطينية. كانت دقيقة انسحاب الوفود من القاعة هى الخبر، ولم يحظ خطاب نتنياهو الذى استمر لمدة 41 دقيقة بالتغطية التى اعتاد عليها فى وسائل الإعلام العالمية. الدلالات السياسية لانسحاب الوفود الأممية لا تقف عند حد الضجر من الأكاذيب، بل يمكن قراءتها من منظورين أساسيين: من المنظور الخارجى، لم يعد المجتمع الدولى يرغب فى المشاركة ولو بالمشاهدة فى عرض السيرك الخاص ببنيامين نتنياهو فى سعيه لتبرير المذابح وحملات الإبادة الجماعية الممنهجة ضد الفلسطينيين العزل. فقد حملت المقاعد الفارغة رسالة لنتنياهو أن شرعية إسرائيل الخارجية آخذة فى التآكل، وأن سياسات حكومة اليمين الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين تتشابه إلى حد التطابق مع فترات ترغب أوروبا نسيانها وأن تسقطها من تاريخها. تباهى نتنياهو أمام جمهوره الذى أحضره معه إلى الولاياتالمتحدة بأن خطابه يجرى تعميمه على الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة بعد أن قرصنت أجهزته الأمنية هواتف الفلسطينيين، وسارت دباباته بين أنقاض المنازل بمكبرات الصوت لتبث كلمته للفلسطينيين فى قطاع غزة، وهو لا يدرك أن صوت القذائف والصواريخ والروبوتات المتفجرة كان أعلى من صوته، ولم يسمع الفلسطينيون كلمة مما اجتره من أكاذيب. لقد جسد نتنياهو- دون أن يدري- شخصيات آمنت بالأدوات ذاتها مثل موسولينى وستالين وهتلر الذين عمموا خطاباتهم على الجماهير مسلوبة الإرادة، واستخدم المفاهيم ذاتها "نحن مقابل هم" كما استخدموها، وسعى عبر اللعب على مشاعر الخوف من العدو الخارجى والتهديدات الأمنية إلى هندسة الوعى الدولى ليرضى بسياساته القمعية تجاه الفلسطينيين وعدوانه على دول الإقليم، فأصبح "موسولينى العبري" القرن الواحد والعشرين. لا يوجد قائد الآن يرغب فى المقامرة بمستقبله السياسى بتوطيد علاقته بنتنياهو. فوفقاً لصحيفة يديعوت أحرنوت، أبدى نتنياهو رغبته فى زيارة الأرجنتين أمام حليفه رئيس الأرجنتين، غير أن الأخير طلب تأجيل الزيارة للتركيز على شعبيته المتراجعة أصلاً فى بلاده. أما على المستوى الداخلى، اعتبرت المعارضة الإسرائيلية الخطاب تعبيراً عن الحضيض الدبلوماسى الذى أوصلها إليه نتنياهو ووزرائه. وأن السيرك الدبلوماسى الإسرائيلى لم يعد يمتع، والحيل البهلوانية لم تعد تنطلى على الجمهور الذى غادر القاعة تاركاً خلفه المهرج العجوز متعب ومرتعش ووحيد. كان الخطاب عربة أخرى تضاف إلى قطار الفشل الداخلى الذى يقوده نتنياهو نحو هاوية محتمة. كان الخطاب بمثابة إعلان موقف انتخابى مبكر موجه للداخل الإسرائيلى أكثر من توجهه للخارج، حيث تجاهل الأغلبية وفضل التوجه إلى الجمهور اليمينى لكسب تأييده فى الانتخابات المقبلة. القلق فى الأوساط الإسرائيلية من تحويل نتنياهو إسرائيل إلى نظام حكم شمولى يتنامى ويتصاعد، حيث الملك أهم من المملكة، وخلق وسائل إعلام موالية تغذى الذعر الجماعى لدى الجمهور بات أولوية، وخلق نظام قضائى جديد لا يحاسب الفاسدين أصبح أجندة حكومية. وصف الكاتب الإسرائيلى ران ادليست فى صحيفة معاريف الحالة الإسرائيلية بتهكم، واصفاً حكومة بنيامين نتنياهو بحكومة الفساد والكراهية والشعوذة، حيث يسعى الثلاثى نتنياهو وسموتريتش وبن غفير إلى التضحية، والتشويه، والإنكار لخدمة قاعدة جماهيرية تسعى إلى تحقيق القوة، والكرامة، والمال. وأن إسرائيل تحت قيادة نتنياهو تخلفت عن الركب الليبرالى – الديمقراطى العالمى، لصالح نموذج حكم الفرد الأوحد الذى يقول "إذا سقطت فيجب أن يسقط الجميع، وإذا حوكمت فيجب أن يحاكم الجميع، وإذا منعت من السفر فلا ينبغى لأحد أن يسافر". فى النهاية وعلى الرغم من رمزية المسألة، إلا أن المسار الذى اتخذته طائرة نتنياهو بتجنبها الطيران فوق الأراضى الأوروبية خوفاً من الملاحقة القضائية فى حالة الهبوط الاضطرارى هو مؤشر على مكانة المنبوذ التى استحقها بنيامين نتنياهو كأحد أبرز مهندسى المجازر فى القرن الواحد والعشرين أو باعتباره "موسولينى العبري" الذى يخشى من ماضيه ومستقبله.