لم يعد الإعلام الرقمي مجرد وسيلة للتسلية أو منصة لتبادل الأخبار السريعة بل صار قوة موازية للسياسة والاقتصاد وقادرا على إعادة تشكيل وعي المجتمعات وصناعة اتجاهات الرأي العام في دقائق معدودة. نحن نعيش اليوم في زمن لا تُدار فيه المعارك بالبندقية وحدها بل بالهاشتاج والتريند ولا تُقاس قوة الدول فقط بما تملك من دبابات وصواريخ وإنما بما تملك من قدرة على صناعة خطاب رقمي قادر على التأثير والإقناع وفرض الحضور على الفضاء المفتوح. لقد كسرت وسائل التواصل الاجتماعي احتكار المعلومة الذي مارسته النخب السياسية والإعلامية لعقود وفتحت الباب أمام المواطن العادي ليصبح منتجا للخبر وفاعلا في صناعة الرأي لا مجرد متلق صامت. غير أن هذا الانفتاح رغم إيجابياته حمل معه تحديات كبرى أبرزها سيولة المعلومة وتراجع الثقة في المؤسسات التقليدية وصعود "الحقائق البديلة" التي قد تهدد استقرار الدول إذا لم تُدار بوعي ومسؤولية. المعادلة الجديدة التي فرضتها السوشيال ميديا تقوم على إيقاع اللحظة حيث تتراجع قيمة التحليل العميق لصالح سرعة البث والانتشار. وفي عالم يلهث وراء "اللايك" و"المشاركة" أصبح الرأي يُصاغ على عجل والوعي يُختزل في جملة قصيرة أو صورة صادمة. هذه الثقافة الرقمية خلقت جيلا يتفاعل باندفاع مع الأحداث لكنه يفتقر أحيانا إلى الرؤية الكاملة. وهنا تظهر خطورة ما يمكن أن نسميه الإدمان المعلوماتي حيث يتشوش الوعي بين الحقيقة والشائعة وبين المعلومة والتحريض. وفي المقابل لا يمكن إنكار أن الإعلام الرقمي لعب دورا محوريا في كسر حواجز الخوف وإتاحة مساحات للتعبير الحر وتسليط الضوء على قضايا لم تكن تجد طريقها إلى الإعلام التقليدي. إنه منح الشباب منصة ليعبروا عن تطلعاتهم ومنح المهمشين فرصة لسرد رواياتهم وفتح الباب أمام التضامن الإنساني العابر للحدود. لقد تحولت الهواتف المحمولة إلى ميادين افتراضية وأصبحت مقاطع الفيديو القصيرة أحيانا أقوى من آلاف الخطب الرسمية. لكن السؤال الأخطر: من يملك السيطرة على هذه المساحة المفتوحة؟ هل هي الشعوب التي تُنتج المحتوى بعفوية أم الشركات العملاقة التي تدير المنصات وتتحكم في خوارزمياتها أم القوى السياسية التي تجيد توظيفها في معارك النفوذ؟ الواقع يشير إلى أن هناك صراعا خفيا يدور في كواليس العالم الرقمي صراعا على العقول والذاكرة الجماعية حيث قد تُستخدم أدوات الحرية ذاتها في إعادة إنتاج الاستبداد عبر التضليل والتوجيه الخفي والتلاعب بالمشاعر. في مصر كما في غيرها من الدول أصبح من المستحيل الحديث عن صناعة الوعي دون التوقف أمام تأثير السوشيال ميديا. فهي الساحة التي يتقاطع فيها وعي الأجيال الجديدة مع طموحات الدولة ورهانات القوى المختلفة. وهنا يبرز التحدي الأكبر: كيف نحافظ على حرية التعبير ونشجع النقد البنّاء وفي الوقت نفسه نحصّن المجتمع من فوضى الشائعات وحملات التشويه التي تستهدف زعزعة الثقة في المؤسسات؟ الإجابة ليست في المنع أو الحجب فهذا النهج لم يعد قادرا على الصمود أمام سيل التقنية المتدفقة. بل تكمن القوة الحقيقية في بناء خطاب وطني رقمي يقوم على الشفافية والسرعة في تقديم المعلومة الصحيحة وعلى القدرة على المنافسة في فضاء مفتوح تحكمه خوارزميات معقدة لكنها في النهاية تستجيب لمحتوى جذاب وصادق. الإعلام الرسمي وحده لم يعد يكفي بل نحتاج إلى تحالف ذكي بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والنخب الثقافية لصناعة محتوى يليق بعصر السرعة ويحتفظ بعمق الفكرة. لقد باتت السوشيال ميديا مرآة تعكس وجوهنا بأحلامنا وإحباطاتنا بصدقنا وأوهامنا. وهي في الوقت ذاته سلاح ذو حدين: قد تكون جسرا للوعي والتنوير وقد تتحول إلى أداة للانقسام والتزييف. الفارق الوحيد هو وعي المستخدم وإرادة المؤسسات ومدى إدراكنا أن معركة المستقبل ليست في ساحات الحرب وحدها وإنما في فضاء شاشاتنا الصغيرة. إن ما نحتاجه اليوم ليس مجرد "مراقبة" لهذا الفضاء بل استراتيجية وطنية واعية تعيد تعريف الإعلام الرقمي كجزء من الأمن القومي وتحوّله من ساحة فوضى إلى ساحة وعي. عندها فقط يمكن أن تصبح السوشيال ميديا أداة لبناء الثقة، وتوسيع المشاركة وصناعة أجيال تدرك أن الكلمة مسؤولية وأن الضغط على زر "مشاركة" قد يكون أحيانا أخطر من إطلاق رصاصة. وبينما يترنح العالم بين أخبار عاجلة وشائعات متدفقة يظل الرهان الحقيقي هو أن ندرك أن الإعلام الرقمي لم يعد مجرد وسيلة للاتصال بل صار ساحة للوجود ذاته. ومن يُحسن إدارة حضوره في هذه الساحة يمتلك المستقبل.