منذ أكثر من ثمانية عقود وبالتحديد فى الثلاثينيات من القرن الماضى كان العلم يقف فى مفترق طرق بدا واضحا فى أعتاب الحرب العالمية الثانية، وكانت مصر تحديدا تواجه سؤال الهوية حين تعالت الصيحات بنقل الخلافة الإسلامية إلى مصر بعد سقوط الدولة العثمانية، فى الوقت التى تصاعدت فيه وتيرة المقاومة الشعبية للاحتلال خاصة بعد توقيع معاهدة 1936. فى تلك اللحظة الملبسة كتب عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين كتابه المهم مستقبل الثقافة فى مصر، وهو الكتاب الذى احتوى ضمن موضوعاته أهدافا عدة مثل الوقوف على عناصر الهوية المصرية المتعددة وكيفية استغلال هذه العناصر فى صناعة برنامج تعليمى محدد الهدف، وبما لذلك صلة بأشكال الوعى عموما والوعى الشعبى على وجه الخصوص، فى صورة عميقة تبدو لأى قارئ قريبة التناول من قضايانا التى ما زلنا نعيشها حتى الآن بالقدر الذى جعل كثيرين يقرون بأن فى هذا الكتاب من الحلول ما لم نقترب منه حتى الآن، وربما كان هذا الكتاب على وجه التحديد واحدا من أهم المصادر التى اعتمد عليها الدكتور ثروت عكاشة حين عمل على إنشاء مؤسسات وزارة الثقافة فيما بعد. والآن، ربما نستطيع الإقرار بأن العالم يقف فى منطقة مشابهة لما قبل الحرب الثانية، وأن مفترق الطرق لم يعد مقرونا فقط بالراهن السياسى بقدر اقترانه بتغيرات معرفية تتسارع وتيرتها بصورة ربما لم يشهدها التاريخ من قبل بالقدر الذى يجعل الهويات القومية جميعها عرضة للمحو أمام طوفان العولمة وتوحيد النمط الناتج من الهيمنة الاقتصادية للشركات الكبرى، وهو الأمر الذى يستوجب مراجعة آنية ومستمرة لأشكال الهوية القديمة بغرض التمسك بها بوصفها الجذر الأصيل الذى يمكن أن يحافظ على تلك الهويات ويمنعها من الاندثار لتستطيع الشعوب المالكة لها البقاء كذلك، وهو الأمر الذى يستوجب التأمل المستمر لمقولات طه حسين ومحاولة تطبيقها على مشتويات عدة. ربما لهذه الأسباب تبدو المقالات التى عنوانها لماذا نحتاج إلى الثقافة نافذة ليس لمراجعة مقولات طه حسين بل بالأحرى مراجعة أنفسنا حيالها وهل تم تطبيق مشروعه أن إننا قد توقفنا عند حد قراءة الكتاب الإعجاب به، وهو الامر الذى استلزم الوقوف على أثر الثقافة على حركة التاريخ والهوية، ومراجعة رؤيتنا لهذا الأثر ومدى محاولتنا استغلاله واستثماره على مستويات متعددة منها الاجتماعى والتاريخى والاقتصادى والسياسي، وهو الأمر الذى حاولت تلك المقالات على مدار الأسابيع الماضية التعبير عنه. ولا يمكن أبدا الإقرار بأن الموضوع قد تم استيفاؤه أو غلقه، لكن بالإمكان التحول إلى شكل جديد من أشكال المعالجة التى سوف تحاول فى المقالات القادمة الوقوف على الظواهر الأكثر تأثيرا فى المشهد الثقافى الراهن فى واحد من أشكال التنويع على القضية، وهو ما سوف نبأه منذ الأسبوع القادم تركيزا على ظواهر ثقافية وكتب صادرة حديثا وقضايا لها الصدارة فى المشهد الثقافى الذى سوف يتماس بالتأكيد مع كل ما من شأنه التأكيد على القضية الأساس وهى قضية صيانة الهوية وصونها، فلهذا تحديدا سنظل نحتاج إلى الثقافة.