في دروب التاريخ المهجورة، حيث تتناثر شواهد العظمة والانكسار على جدران الحضارات القديمة، نجد عددا لا يحصى من المرايا المعلقة. منها الصافية التي تعرض الواقع في صراحة قاطعة، ومنها المتشققة التي تفتت الصورة إلى قطع متناثرة من الأوهام والذكريات الضبابية. وإزاء هذه المرايا تنتصب الأمم، الواحدة تِلو الأخرى، في صمت رهيب، وكل منها تتفحص ملامحها الأصيلة. فماذا تبصر في ذلك الانعكاس الملتبس؟ هل تميز قسوة الجغرافيا وقد نحتت تضاريسها على محياها؟ أم تشاهد قفص المؤسسات الصلب الذي أطّر حركتها وكبّل أعضاءها؟ أم إنها تحملق بعمق أكبر، في بئر بلا قعر، لتُلمح قسمات روحها، ذلك الكيان المُتفلت الذي نطلق عليه "الثقافة"؟ منذ زمن بعيدة، وقف رجل في أرض ألمانيا، يدعى ماكس فيبر، ليحكي ملحمة روح استثنائية ولدت في برد شمال أوروبا القارس. لم تكن روح طمع أو غزو، بل روح مضطربة، تتقصى الخلاص في براعة الأداء المهني. ذكر فيبر أن جماعات معينة من البروتستانت، بإيمانها بمفهوم "القضاء والقدر"، دفعت أتباعها للبحث عن إشارات رضوان الخالق في إنجازهم الأرضي. فصار العمل عبادة، والتوفير خلق، وإعادة ضخ الأرباح التزام مقدّس. هذا "الزهد الدنيوي" لم يكن يستهدف تكوين الثروات، وإنما إثبات الذات أمام السماء. غير أنه، دون قصد، أشعل فتيل الرأسمالية المعاصرة، وأقام صروح اقتصادية عالية على قاعدة من القلق الوجودي والتقوى المنتظمة. كانت تلك حكاية حول كيف يمكن لعقيدة دينية أن تعيد صياغة العالم المادي، وكيف يمكن للروح أن تشكل التاريخ. لكن هل جميع الأرواح متماثلة؟ وهل هناك وصفة روحية للتقدم؟ جاء آخرون، مثل ديفيد لانديس، ليؤكدوا بنبرة أكثر قطعية: "الثقافة تحدث كل الفارق". رأوا في الثقافة الغربية خليطا متفردا من فضول المعرفة، والعقلانية، والميل نحو الابتكار، وهي قيم جعلت من أوروبا معمل دائم للأفكار المستحدثة، بينما كانت ثقافات أخرى، من منظورهم، أسيرة موروثاتها، تهاب التحول وتحتقر التجارة. ثم ظهر فرانسيس فوكوياما ليحول الحوار من القيم الفردية إلى نسج العلاقات الاجتماعية ذاته. قال إن العملة الحقيقية للشعب ليست الذهب والفضة، بل هي "الثقة". فالمجتمعات التي تنتشر فيها الثقة إلى ما هو أبعد من وشائج الدم والقبيلة، لتشمل الغريب والجار والمؤسسة، هي وحدها القادرة على إنشاء منظمات اقتصادية ضخمة ومرنة. هذه "مجتمعات الثقة الرفيعة" تشبه سوق واسع ومنفتح، حيث تجري المعاملات بيسر وتقل تكاليف الشك والحذر. أما "مجتمعات الثقة المتدنية"، فتبقى محبوسة خلف أسوار العائلة، كل منزل حصن، وكل غريب مصدر تهديد محتمل، فتظل شركاتها ضئيلة وعائلية، عاجزة عن المنافسة في محيط العالم الفسيح. وحتى لا يبقى الكلام في عالم المفاهيم المجردة، جاء باحثون آخرون بمقاييسهم وأدواتهم، محاولين رسم خرائط للنفس البشرية، كما يرسم الجغرافيون خرائط للأراضي. فظهرت أبعاد هوفستيد الثقافية، ومسح القيم العالمي، التي حاولت قياس أشياء مثل "التوجه طويل المدى" - تلك القدرة على الصبر وغرس نخلة قد لا يتذوق من ثمرها الغارس - أو "الفردانية مقابل الجماعية" - الصراع الأبدي بين حرية الفرد والتزامات الجماعة. وأظهرت الأرقام، مرة بعد أُخرى، أن هذه القيم ترتبط ارتباط وثيق بالنمو الاقتصادي والتحول الديمقراطي. لكن هنا، في عمق هذا التحليل، يكمن فخ خطير. فهل هذه الروح، هذه الثقافة، قدر مكتوب في جينات الشعوب؟ أم أنها طين يُشكل في أيدي السلطة، ويتلون بلون الفقر والغنى؟ إن أخطر ما في التفسيرات الثقافية هو أنها قد تنقلب إلى أداة لإلقاء اللوم على الضحية. أن نقول إن الفقراء فقراء بسبب ثقافتهم، يعني أننا نبرئ ساحة الظلم والاستغلال. فهل انعدام الثقة في مجتمع ما هو سمة جذرية، أم أنه استجابة منطقية لواقع من الفساد وغياب القانون؟ وهل التركيز على المدى القصير هو عيب في الشخصية، أم أنه ضرورة للبقاء في بيئة لا تضمن لك رزق الغد؟ إن الأمة التي تنظر في مرآة ثقافتها يجب أن تسأل نفسها: هل هذه الملامح التي أراها هي مصيري، أم هي مجرد قناع فرضه علي تاريخ طويل من القهر والحرمان؟ إن الإجابة على هذا السؤال هي الخطوة الأولى، ليس فقط لفهم الذات، بل للشروع في رحلة التغيير الشاقة. فالروح، مثل الجسد، يمكن أن تصاب بالمرض، ويمكن أيضا أن تشفى وتنهض من جديد.