«يوجد شىء حقيقى واحد يا أبىّ.. هو الموت»، هكذا تنطق الحكاية فى الحرافيش، لا لتغلق الباب فى وجوهنا، بل لتفتحه على عالم أوسع عند نجيب محفوظ، فعنده لا يقف الموت خصما للحياة، بل يمثل وجها آخر لها. امتلك نجيب محفوظ عقلا فلسفيا محبّا للجدل الهادئ، فهو يقيم الحوار مع الفكرة ثم يعيدها إلى الميدان الإنسانى عبر الفن، والموت عنده فكرة كبرى لا تلاحق الإنسان بقدر ما يطارده الخوف منها، لذلك لا يكتب الرحيل بوصفه نهاية، بل بوصفه بوصلة تنبهنا للوقت الذى بين أيدينا، ولما يمكن أن نصنعه به. ولأن محفوظ موهبة صقلها الاجتهاد اليومى، ولأنه انحاز إلى قيمة العمل والاتساق، ولامتلاكه روحا لا تسمح لليأس أن يتسلل لها صارت الكتابة عند محفوظ فعل مقاومة للتهالك، وللمعنى حين يبهت. تأمل نجيب محفوظ الموت وحاول أن يروضه فصاغه فى مصائر أبطاله، وحين جاء يوم 30 أغسطس 2006، لم يكن الوداع مجرد حدث رسمى، بل بدا كأن محفوظ يواصل درسه الأخير «البساطة التى تشبهه» والاقتراب من الناس كما كان دائما، وترك مساحة للذاكرة كى تعمل عملها الهادئ. تسع عشرة سنة مرّت، وما زالت الأسئلة التى طرحها عن الموت تعمل فينا: هل يراد لنا أن نخاف، أم أن نتدرب على حياةٍ أصدق؟ هل نسلم للمصادفات، أم نتحمّل مسؤولية الاختيار؟ وهذا الملف محاولة للإنصات إلى «الموت على طريقة نجيب محفوظ»، كيف رآه فى فكره وعيشه، وكيف أعاد صياغته فى حيوات أبطاله بين القدر والعبث والخلاص، سنقف عند يوم الاغتيال وما تلاه، وعند الأيام الأخيرة قبيل الرحيل، وعند مشاهد من الروايات تحمل حرارة التجربة. لسنا نحتفى بالموت، إنما ننظر إلى الحياة التى يضيئها حين يحضر للحياة التى تُقاس بصدق العمل، وبما يتركه الإنسان من أثر. اقرأ أيضا.. خازن النفس وعراف المصائر.. أساطير يتوجها الرحيل.. حكايات الموت كما عاشها أبطال روايات نجيب محفوظ.. عاشور الناجى احتمى بالغياب.. ورصاصة قتلت سعيد مهران.. و«حديث الصباح والمساء» سجل الأحياء الموتى