في "الطريق" الابن يمثل صراع بين السماء والأرض أعمال محفوظ تدعو للزهد وتحارب الاستبداد في "الحرافيش" لغة صوفية شعرية والتكية رمز الانعزال شريف صالح: نزعته الصوفيه جعلته يتسامح مع من حاولوا قتله "عند نجيب محفوظ نزعة صوفية لا تنكر; لكنه ليس من الدراويش إن قدميه ثابتتان في الأرض محبتان لها, وعيناه حانيتان علي أهل الأرض فاهمتان لهم, لكنهما عينان تغازلهما أنوار النجوم, المشعشعة بالسحر والغموض, وهو بعقل الفيلسوف وقلب العاشق الشاعر لا تغيب عنه عظمة الكون وجلال المطلق اللانهائي, وهو يذكره, لكن ليس في حضرة. يذكره وعيناه صاحيتان, وهو يسير في الأرض بين الناس, يتألم لما فيها من قبح, ويهتز قلبه لما فيها من جمال. ويرسم الناس في أوراقه نفوسا شتي, منها الغليظ ومنها الرقيق, ومنها التائه الذي يبحث عن مأوي.. يبحث عن الله, حتي وإن كان لا يعرفه, مثل "صابر" في الطريق". هكذا يصف بهاء جاهين أديب نوبل نجيب محفوظ الذي تحل اليوم 30 أغسطس ذكرى رحيله في عام 2006، ونتوقف اليوم مع كتاب "قراءات صوفية في أدب نجيب محفوظ" الصادر مؤخراً عن هيئة الكتاب لد.هالة أحمد فؤاد، وتحدثت فيه عن روايتي محفوظ "الطريق"، و"الحرافيش". تقول المؤلفة في بداية كتابها: "أليس لون منقار الطائر في الحلم، أهمّ أحياناً من أحداث الحلم كلها كما يقول لنا فرويد في أحد نصوصه؟ بصمة اليد العابرة على دار بارد أليست أهم من الجدار وبنيانه لمن أراد قراءة القصص واقتناص الأثر؟ إذ كان النص المبتدع حلماً من أحلام اليقظة؟ فلماذا نعرض عن الترابطات التي تصنع نسيج الحلم وتفتح أبواب التأويل، ونحن نفسر أحلام اليقظة التي خرجت من فضاءات الذات وأصبحت أحلاماً نهارية مشتركة نسميها "أدباً". ووفق الكتاب، بسيمة أم صابر في روايته "الطريق" هي إيزيس المرددة: "أنا ما كان، وما هو كائن وما سيكون..وما إنسان بقادر على رفع برقعي". بسيمة هي الأم العتيقة المتسلطة، ولذلك اشتق اسم صابر من الصبر – الأسر، كان صابر أسير أمّه وأسير اسمه: "كان صابر حبيساً داخل فضاء بسيمة عمران الأسطوري". الطريق عنوان لافت لرواية محيرة ملغزة لنجيب محفوظ، رواية تنطوي على غواية فاتنة، إذ تدفعك في فضاء تأويلي احتمالي، ساحر ومرعب في آن. قصة اجتماعية تصور حياة مصري تبدأ بمشكلة و تنتهي بمشاكل، تصور القصة حياة صابر بعد وفاة أمه و مهمته في البحث عن والده وكيف انجرت عنها مشاكل عديدة أودت به إلى الهاوية والحكم عليه بالاعدام. تجسد الرواية قصة بحث صابر عن أبيه والذي يبدأ "البحث" يوم وفاة أمه الراقصة "بسيمة عمران"، والتي عودته طيله حياته على الاتكال عليها دائما، ماتت وكانت وصيتها له بالبحث عن أبيه للاتكال عليه حيث سيجد عند أبيه الذي تركته منذ ثلاثين عاما كل الكرم والمال، ولذا يترك صابر الاسكندرية ليبحث عن والده في القاهرة وكل مايعرفه عنه هو اسمه "سيّد سيّد الرحيمي " هذا الاسم الذي يحمل معاني السيادة والرحمة بشكل يجعل رمزيته في غاية الوضوح، البحث هنا من أجل الاستمرار في حياة الكسل والاتكال على الغير، وكانت هذه أسئلة صابر الوجودية عن أبيه في حواره الأخير مع أمه: هل أضيع عمري بالبحث عن شيء قبل التأكد من وجوده . لكنك لن تتأكد من وجوده الا بالبحث هل هو يا ترى يستحق كل هذا التعب بلا أدنى شك يا بني فستجد في كنفه الاحترام والكرامة وسيحررك من ذل الحاجة لأي مخلوق . وكانت طرق صابر في البحث: البحث في دليل التليفونات، سؤال مشايخ الحارات، إعلان سخيف في الجريدة ولكن العمل الجاد شيء لا يفعله صابر أبدا فقط هو يتساءل بحيرة لماذا لم يلبِ الأب نداء الابن ويبحث عنه. يتعرف صابر بالهام التي تعمل في الجريدة التي وضع بها الاعلان والهام مثل صابر تركها أبوها ولكن بدل أن تضيع وقتها بالبحث وقالت:" إن العمل هو الذي يحل مشكلتنا"، وادركت أن الخلاص يكون بالمشاركة الانسانية الواعية في صياغة الحياة ومع جدية إلهام نجد أباها يستيقظ من جحوده ويعود إليهم. وفي مقابل علاقة صابر مع إلهام، يتعرف صابر على كريمة زوجة صاحب الفندق الذي يقيم فيه في القاهرة، وتخون كريمة زوجها العجوز مع صابر ويقرر صابر أنه قد يجد حلا سهلا لمشكلته بقتل الزوج ليحظى بالمتعة والمال ويتخلص من البحث عن أبيه، وبذلك تستمر حياته القائمة على التبّطل واللامسئولية . في النهاية يتم القبض على صابر بعد قتله صاحب الفندق الشيخ خليل ومن ثم قتله لكريمة بعد أن شك في خيانتها له، ورغم أنه تخلى عن إلهام فإنها لم تتخلّ عنه وأرسلت محاميا للدفاع عنه، ويموت صابر بالإعدام ولكن صابر يضع اللوم على أبيه في كل شيء. رواية "الطريق" التى يبحث فيها الشاب عن أبيه الغائب "رمز الرب" دون جدوى، ليصبح الطريق حالة غربة وجودية, وحنين الفرع التائه إلى الأصل, إن الأب هنا رمز صوفي, إنه الأصل والمأوي والأمل. وتمزق بطل الرواية بين امرأة صاحب الفندق, تلك المرأة الشهوانية التي بلا أخلاق, وبين إلهام الصحفية التي قابلها, ذلك التمزق بين إلهام السماوية وكريمة الأرضية, هو رمز لتمزق أعمق في الروح الإنسانية بين ما يدعوه لحمأة الأرض وما يجذبه لصفاء وضياء السماء. يقول محفوظ: "استغرقتني كتابات الصوفية الإسلامية رغم أنني لا أؤمن بأفكار الصوفية ومعتقداتهم كما يؤمن بها المتصوفون، ولكني وجدت في قراءة كتبهم وتأملها راحة عقلية ونفسية كبيرة. جذبتني في الصوفية فكرة السمو الروحي، وفي المقابل لم أقتنع بفكرة رفض الدنيا، فلا أتصور مذهبا دينيا يرفض الدنيا أبدا. وظهر رأيي بوضوح في رواية "اللص والكلاب" في شخصية الرجل الصوفي الذي يلجأ إليه "سعيد مهران" عسى أن يجد عنده حلا لمشكلاته، فلا يجد سوى لحظات من الراحة النفسية، هي أقرب إلى المسكنات، وليس فيها أي نوع من الحل الأساسي أو الدواء الشافي." وتبادئنا رواية الطريق بمشهد الموت، حيث يودع صابر أمه بسيمة عمران إلى مقرها الأخير، القبر المظلم ورائحة التراب، وصدمة التواري والغياب، أو لنقل صدمة المواجهة الأولى مع الموت، و"أمس فقط لم يكن يفكر في الموت بحال". لكن في النهاية يسقط صابر ، عكس ما يحدث في الحرافيش, التي يستطيع البشر في نهايتها أن يحققوا ملكوت السماء على الأرض, ولكن بعد تخبط وفشل وظلم وكوارث بدت أنها لن تنتهي. ملحمة الحرافيش تتوقف الكاتبة أيضاً عند "الحرافيش"، من حيث عالمها ومفرداته: الحارة, الحرافيش, الفتوات, التكية.. تفلت من قبضة الواقع المعاصر وتلخص مفرداته في هذه الرموز سابقة الذكر- فهو عالم رمزي فيه تكثيف واختزال وتجريد, وإن كان يرمز إلي واقع شديد الحضور وشديد المعاصرة, وهو في نفس الوقت واقع ثابت وكأنه أبدي. وسعادة البشر النهائية في ختام الرواية هي نبوءة من الكاتب لها ما يؤيدها في الكتب السماوية. لغة الطريق غير صوفية علي الإطلاق, أما في الحرافيش فالأمر يختلف. فاللغة صوفية أحيانا, شعرية في أحيان كثيرة. تبدأ الحرافيش هكذا: في ظلمة الفجر العاشقة, في الممر العابر بين الموت والحياة, علي مرأى من النجوم الساهرة, على مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة, طرحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا. وتنتهي حكاية عاشور الناجي - وهي الحكاية الأولى - هكذا: وجد عاشور الناجي نفسه فتوة الحارة دون منازع.. وكان يسهر ليله في الساحة أمام التكية, يطرب للألحان, ثم يبسط راحيته داعيا: اللهم صن لي قوتي, وزدني منها, لأجعلها في خدمة عبادك الطيبين. والتكية في الرواية ترمز إلى من تأخذهم دروشة تنسيهم الأرض فينعزلون عنها وعن آلام الخلق وعذابهم. وقد جعل أديبنا لغة أناشيدهم فارسية, إمعانا في الإشارة إلي استغلاقهم على الناس وانعزالهم عنهم. وتوضح المؤلفة: خلق عاشور من الحرافيش قوة لا تقهر ورفض أن يغدو أسطورة مستحيلة تكتسب تأثيرها الساحر عبر غيابها المحير، وأصر أن يستمد حضوره الفعال من قوة ونجاح من يحيطون به، منح الهامش فرصته الجديرة به، والتي اقتنصها بيده، وأضحى بؤرة منيرة في عمق المتن الذي لم يعد متمركزاً بدوره حول الواحد الجليل، الذي به يستمر الحلم، وبغيابه ينهار، وينساه البشر، بل هو حلم يصنعه الكل، ويشاركون في نسيجه الممتد عبر أجيال، نسيجاً يومياً حيوياً متجدداً، لا يكف كل فرد من المجموع عن الإبداع الخلاق في مساحة منه أو زاوية من زواياه!. نسج القدر أحابيله المدهشة كعادته، لكنه وللمرة الأولى يفارق العبث القاسي، ويستجيب للحلم البشري الجميل متناغماً ومنسجماً، يمهد الطريق وكأنه يقود الخطى وئيدة ثابتة وقوية نحو غايتها المنشودة!. حلم الناجي الحفيد في لحظة خلا فيها بنفسه عند التكية، كأن الأناشيد الغامضة تُفصح عن أسرارها بألف لسان، وكأن درويشاً شبحياً خرج من التكية وجاءه يخبره بالنبوءة الغالية، غداً سيخرج الشيخ من خلوته، ويشق الحارة وسيهب كل فتى نبوتاً من الخيزران وثمرة من التوت، استعدوا بالمزامير والطبول؟. عاد من حلمه اليقظ، وقال لنفسه ربما انفتح الباب ذات يوم لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة!. كان التغير يظهر جلياً في عالم نجيب محفوظ الروائى مع دخوله عالم الصوفية الزاخر بأسرار الروح. وإذا كان العقل فشل فى إعطائه الراحة المنشودة فقد لجأ إلى الصوفية واحة المُعذبين. فمن الشيخ الصوفى فى "اللص والكلاب" إلى ملحمة "الحرافيش" التى تدور فى خلفية من التكية والأناشيد الغامضة الجميلة، إلى "ليالى ألف ليلة"، ليترجم ذلك فيما بعد فى حوار صحفى يقول فيه شارحاً حاله: "لقد آمن القلب فشد العقل وراءه". ويؤكد النقاد أن تصوف محفوظ فى أعماله كتصوفه فى حياته، تصوف سعى دائم ويقظة داخلية منتبهة لا تغفل، ومخاصمة لليأس، ونظرة للحياة يغمرها الحب وسؤال دائم بلا جواب، ومقام يقين يفضى إلى الهدوء والسكينة مهما اشتدت الأهوال والمحن، وأحيانا تكون "مقامات ترك" تحل كالبرق ثم تزول ليحل محلها مقامات أخرى فى ديمومة متجددة مثل إبداعه حتى الرمق الأخير، أعماله عموما بها دعوة للزهد والتصدى لكل ما نملكه حتى لا يتملكنا. روح محفوظ المتصوفة من جانبه قال القاص والكاتب شريف صالح أن الصوفية جذر مهم في تكوين شخصية نجيب محفوظ، مثلما هي في إبداعه. فهو المولود في حي الحسين ظل وفيًا لهذا الحي وآثر أن تخرج جنازته من هناك لتكتمل الدائرة. ونحن نعرف ما للحسين رضي الله عنه من منزلة في نفوس المتصوفة المصريين. يواصل في تصريحات خاصة ل"محيط": هذه النشأة القريبة من الزوايا والتكايا الصوفية انعكست على شخصيته التي اتسمت بروح المحبة والتسامح والبساطة والزهد. يظهر ذلك في ولائه السياسي لحزب الوفد "الليبرالي" في مقابل ارتيابه وحذره من جمهورية يوليو. كما يظهر في آرائه السياسية والاجتماعية، وحتى في مسامحته لمن حاولوا قتله. لقد عاش محفوظ بروح الزاهد متجنبا الصراع على المناصب ومنافقة السلطات المختلفة، قانعا بوظيفته العادية.. كما كان بسيطا وقريبا من الناس الذين يلتقيهم ويصافحهم في مشواره اليومي على النيل.. ولولا الضوء الفادح لجائزة نوبل لما تذكرته وسائل إعلامنا في شيخوخته!. وبسبب هذا المستوى العملي لروحه المتصوفة.. يندر العثور على كلمة نابية أو انتقامية قالها بحق أحد.. أو سلوك يعكر روح الاستغناء في داخله. يتابع صالح: يقابله حضور آخر للتصوف في نصه الإبداعي، وهو مبثوث في كل مدونته السردية على اتساعها، من الأحلام الصوفية والأشواق، وحكم المتصوفة الكبار وأشعارهم، وذكرهم بالاسم أحيانًا. وفي الكثير من نصوصه تتمركز شخصية دينية ذات طابع صوفي مثل الشيخ الجنيدي في "اللص والكلاب" مثلًا.. غالبا ما ينظر إليها محفوظ بمحبة وتقدير على عكس نظرته لأتباع الإسلام التنظيمي السياسي. ولعل التجلي الأهم والمكثف للتصوف كان في "أصداء السيرة الذاتية" ومرجعية "الشيخ عبد ربه التائه" بهذا الاسم المركب، من الامتثال والعبودية لله تعالى، وفي الوقت نفسه "الحيرة والتيه" في دروب الحياة وأفكارها. ولم تكن روح التصوف التي مارسها محفوظ في حياته، وتجلت في إبداعه، مجرد هوى عاطفي بحكم الميلاد والنشأة، بل هي في صميم وعيه الفلسفي الذي تربى عليه هو خريج قسم الفلسفة في كلية الآداب، فتلك الدراسة أكسبته عقلًا جدليًا لا ينحاز للأفكار، ولا يتعصب لها، بل يعرضها ويجسدها في مرايا متقابلة.. وهو موقف لا يبعد كثيرًا عن جوهر الموقف الصوفي من الوجود. وإن كانت رؤية محفوظ تميل إجمالًا إلى نظرة متشائمة لوجودنا الإنساني وليس أدل على ذلك من تلك الفقرة من الأصداء المحفوظية: "سألت الشيخ عبد ربه التائه: كيف تنتهي المحنة التي نعانيها؟ فأجاب: إن خرجنا سالمين فهي الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل".