وحتى لا يمضى الحديث عن علاقة التصوف بالأدب بلا مثال ولا برهان، سأبين فى هذا المقام تأثير التصوف على أدب نجيب محفوظ، الذى تناول باقتدار فى كثير من أعماله الروائية والقصصية الجوانب الاجتماعية للظاهرة الصوفية، إلى جانب استفادته من لغتها وقيمها وصورها المدهشة. فقد فتح محفوظ عينيه على راياتهم وبيارقهم التى ترفرف على هامات البيوت فى حى الحسين بالقاهرة مسقط رأسه، وكانت أناشيدهم التى يصدحون بها فى وضح النهار وفى الهزيع الأخير من الليل من أولى الأصوات التى تناهت إلى سمعه وهو يحبو داخل المنزل. لا شك أنه تساءل فى طفولته عن هؤلاء الذين يملأون الدنيا ضجيجاً بطبولهم، ولا شك أيضاً أن الإجابة لم تكن كافية لتشبع عقله المتوثب النهم، فراح يجيل البصر هنا وهناك ويقدح الذهن بحثاً عن حقيقة هؤلاء الدراويش، ليصل إلى أن التصوف أعمق من هذه الأشكال الفلكلورية وينطوى على قيم المحبة والزهد، ويسبح فى عالم الحدس والخيال. ويبدو أن محفوظ قد شرب من الظاهرة الصوفية حتى الثمالة فأعماله التى تناول فيها هذا الصنف من الناس تدل إلى حد كبير على أنه هضم الكثير عن المريدين وشيوخهم. عرف الفرق بين الأولياء والأدعياء، وبين الباحثين عن رياضة روحية تشفى أنفسهم العليلة وتقربهم من الحق والحقيقة زلفى، وبين القابضين على مصالحهم الدنيوية المتسترين بعباءة التصوف لتحقيق مآرب عاجلة لا تخرج بأى حال من الأحوال عن ثروة تتراكم من جيوب الغلابة أو جاه يقوى بكثرة الأتباع. وإلى جانب رحلة البحث عن العدل لدى حرافيش الحارات الضيقة مثل «التصوف» بعد أساسى فى مشروع محفوظ الأدبى برمته، بدءاً من قصصه القصيرة وانتهاء بملحمته الرائعة «ملحمة الحرافيش»، وأخيراً يمكن القول إن نجيب محفوظ قد تناول باقتدار الجوانب الاجتماعية للظاهرة الصوفية التى تعد جزءاً لا يتجزأ من مجتمعنا المصرى العامر بالظواهر الإنسانية التى تستحق أن نمعن فيها النظر لنخرج منها بآلاف المعانى كما خرج منها أديبنا العربى الكبير بعشرات الحكايات. ففى قصة «حكاية بلا بداية ولا نهاية» تتطرق إلى عدة أشياء مهمة ارتبطت بالظاهرة الصوفية المعاصرة منها تحالف بعض الطرق الصوفية المصرية مع الاحتلال الإنجليزى ومنها أيضاً استغلال بعض المشايخ للطرق فى جمع ثروات طائلة يصعدون بها إلى أعلى مراتب السلم الاجتماعى، بينما يرزح مريدوهم فى الفقر المدقع، وكذلك مسألة قيام المريدين بنسج الأساطير حول شيوخهم. وفى رواية «اللص والكلاب» يقدم محفوظ نموذجاً للمتصوف المنسحب من الحياة المنكفئ على أذكاره وأوراده بعيداً عن المجتمع وأحواله والناس ومشكلاتهم، ويكمل أديبنا تناوله لهذا الصنف من البشر ولكن باستفاضة فى روايته ملحمة «الحرافيش». وفى رواية «زقاق المدق» يلتقط محفوظ واحداً من أولئك الذين تعرضوا لاضطهاد شديد ووقع عليهم ظلم بيِّن فانخرطوا فى سلك الدروشة. (ونكمل غداً إن شاء الله تعالى)