مرّت سبع سنوات على رحيل نجيب محفوظ بالطبع، لم يكن الظرف مواتيًا لأجهزة الإعلام لكى تمنح هذه المناسبة ما تستحقها، هل هؤلاء الكبار الذين أضاؤوا حياتنا وعمّقوا وجداننا ورسموا ملامحنا، هل نحن حقًّا نعرفهم؟ مَن اقترب من نجيب محفوظ، وهم كثر لا شك، كتبوا الكثير، كل له إطلالة خاصة يرى فقط زاوية ويحلّل جانبًا وربما يتناقض ذلك مع ما يراه الآخرون. كثيرًا ما كنت ألح على مخرجنا الكبير توفيق صالح الذى غادرنا قبل أقل من أسبوعين باعتباره أصغر مجموعة الحرافيش سنًّا أن يكتب عن زعيم الحرافيش وباقى الشلة، عندما كانت تجمعهم جلسة أسبوعية مساء كل خميس، حيث إن تلك الجلسات والتى بدأت منذ خمسينيات القرن الماضى نستطيع من خلالها أن نرصد تضاريس مصر الاجتماعية والسياسية والثقافية، صحيح أن الكاتب الساخر الكبير والمظلوم إعلاميًّا محمد عفيفى، له مقال رائع عنوانه «نجيب محفوظ رجل الساعة»، إلا أن هذا قليل جدًّا ونادر وكنا بحاجة إلى الكثير من الإضاءات، أتذكر أن الأستاذ توفيق صالح كثيرًا ما كان يؤكد لى أنها جلسات خاصة ولا يجوز نشرها، قلت له الخاص يظل كما هو، ولكن هناك أفكار وقضايا يجب أن ترصدها وتحمّس قليلًا للفكرة، ثم فقد حماسه، وكنت على استعداد أن أسجّل ما يقوله وأكتبه وأعرضه عليه، ليحذف ما يراه غير جائز تداوله، ولكنه ظل وحتى رحيله يقف على شاطئ التردد.
لو سألت عائلة نجيب محفوظ، السيدة زوجته وابنتيه، عنه لقدما صورة ربما لا تتوافق تمامًا مع ما يرصده أصدقاؤه، ولنستعيد معًا هذه الحكاية بعد رحيل أديبنا الكبير بأشهر قلائل، أعربت أم كلثوم ابنة نجيب محفوظ لأول مرة على صفحات جريدة «الدستور الأصلى» عن انزعاجها من أحاديث محمد سلماوى، وكان سلماوى قد كتب الكثير عن محفوظ فى سنواته الأخيرة واستمر لبضعة أشهر يكتب بعد رحيله، ولكن أم كلثوم دلّلت بكذب ما يقوله بواقعة عشقه للفول المدمس، حتى فى أثناء وجوده فى لندن!
ولأن الفول قضية طريفة ينبغى أن يتم تناولها وهى ساخنة، فلقد سألت وقتها صديقه توفيق صالح، فأجابنى بأنه لا يريد أن يدلى بدلوه فى ما يتعلق بمدى صحة ما يقوله سلماوى عن محفوظ، لأن هناك بالفعل العديد مما يقرؤه أو يسمعه يشوبه عدم الدقة، أما عن واقعة الفول، فإنها صحيحة تمامًا، فلقد كان نجيب محفوظ عاشقًا لكل أنواعه!
انتهت كلمات مخرجنا الكبير وما أرويه لكم الآن ما يعبر عن قناعاتى أنا وهو أن الفنان أو الكاتب بعد رحيله يضع الإعلام فى حيرة بين الأصدقاء والأسرة وغالبًا فإن من يحظى بالاهتمام الأكبر هم الأسرة، فيصبحون هم المرجعية النهائية أمام أى اختلاف فى وجهات النظر، على الفور يسألون الزوجة والأبناء أو الأب والأم لو كانوا على قيد الحياة، أما مع نجيب محفوظ فإن طبيعة أسرته الصغيرة هى البعد عن الإعلام، ولهذا كان للأصدقاء الكلمة الأعلى، خصوصًا الحرافيش بنوعية مجموعة حرافيش نجيب محفوظ القدامى، مثل أحمد مظهر وعادل كامل ومحمد عفيفى وتوفيق صالح، مع الأسف لم يسجّلوا إلا القليل ولم يبقَ منهم بعد محفوظ سوى توفيق صالح، كما أن مجموعة الحرافيش الجدد الذين اقتربوا أكثر من نجيب بعد جائزة «نوبل» ومن بينهم الغيطانى، والقعيد، والأبنودى، وعلى سالم، وزكى سالم، وغيرهم، كانت لديهم رؤية خاصة فى قراءة نجيب محفوظ، لو أن توفيق الحكيم الذى يعتبر أحد أساتذة نجيب محفوظ كان قد كتب عن نجيب محفوظ «بورتريه» سوف نكتشف زاوية رؤية تختلف تمامًا عما يراه الآخرون، كل منهم يعرف وجهًا واحدًا، فالسيدة زوجة نجيب محفوظ ستروى بالتأكيد الكثير عن الإنسان، أصدقاؤه سيكشفون عن جوانب قد تفاجئ الأسرة، ومن البديهى أن الصديق يعرف أكثر، سألوا يومًا أعرابيًّا أيهما أحب إليك أخوك أم صديقك، فقال أخى إذا كان صديقى!!
لا أحد يملك الحقيقة المطلقة وحتى التفاصيل الشخصية يختلفون عليها، ابنة نجيب محفوظ تقول إنه لم يأكل الفول، وسلماوى يؤكد أنه أكله فى لندن، وتوفيق صالح أصر على أنه كان عاشقًا ولهانًا للفول، فهل نعرف حقًّا نجيب محفوظ؟