لا شك أن كثيرا من شعرائنا الكبار كانوا يجمعون إلى جانب موهبتهم في كتابة الشعر ملكة التذوق الشعري المرهف، ولم لا؟ فالشاعر أول ناقد لشعره وأول متأمل لقصيدته بعد الانتهاء من كتابتها، ومن البدهي أن تمتد ملاحظاته إلى منجز مجايليه من الشعراء أو لاحقيه من شداتهم. وقد كان شاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور من أكثر المتأملين في إبداع الشعراء ومتابعة منجزاتهم الجديدة "بشكل عام"، ومن أكثر المنخرطين في معايشة قصائده "بشكل خاص" في أثناء الكتابة وبعدها، وكان ممن كتبوا قصائد تتحدث عن الشعر بالألف واللام، حيث استهوته عوالم ما قبل كتابة القصيدة إذ يغدو الشعر ذاتا وموضوعا في الآن ذاته، وحيث تتعانق موهبة تذوق الشعر وملكة التفرد في كتابته بالطبع. فتجربته الشعرية العملية أو بمعني أدق خبرته الشخصية في التمرس مع الكتابة قد أعطته قدرة تذوقية ناضجة، أغناها بكل تأكيد محصوله الثقافي الوافر وإطلاعه المتسع والعميق على تجارب الشعر في موروثنا العربي القديم ومذاهبه المعاصرة إلى جانب متابعاته المتجددة الدءوبة لاتجاهات الشعر المتنوعة في مختلف أرجاء العالم، لاسيما في أوربا وأمريكا، فقد تتلمذ على يد لويس عوض الذي جعله يتقن اللغة الإنجليزية إتقانا تاما، ويترجم منها إلى العربية -بين وقت وآخر- قصائد ومسرحيات وقصصا قصيرة؛ مما أكسب ذوقه مذاقا خاصا اتسم بالشمولية والتنوع والاتساع، وطبعه بقدرة نقدية جعلته يتعامل مع تراثه العربي من منظور انتقائي ويحسن توظيف تيماته الراسخة القادرة على التنفس في حياتنا الحاضرة والتفاعل مع رؤيته الحديثة والاندماج فى تجاربه المعاصرة، وأيضا يوظف بعض تجارب كبار شعراء العالم الحديث، ويجيد التحاور معها، كما نجد مثلا في استدعاءاته لإليوت في مسرحه وفي بعض قصائده على مستوى التناص ومستوى استحضار الشخصية، وكما نرى في تحاوره مع وليم بتلر ييتس في قصيدة تنويعات مستحضرا بيته الشهير الإنسان هو الموت: يا وليم بتلر ييتس كم أضنيت يقيني بفكاهتك الأسيانه بذكاء القلب المتألم لكني أسأل إن كان الإنسان هو الموت فلماذا يتبسم هذا الطفل الأحور ولماذا جاز البحر المزبد حتى حط على شباكي الشرقي الموصد هذا العصفور الأسود هذا البيت الإنسان هو الموت إذ يجسد ذلك المقطع الشعري التأملي تجربة عبد الصبور في الاطلاع والمثاقفة التي تنطوي على حوار حضاري بين ندين، لا بين تابع ومتبوع بل بين رؤية الشاعر الغربي/ ييتس ورؤية الشاعر الشرقي/ صلاح عبد الصبور الذي لا يسلم بأن الإنسان هو الموت كما يرى ييتس، بل يستشرف في ابتسامة الطفل مستقبلا، ويقرأ في لمعة عينيه حياة، ويرى في تفاعل الشعراء مثاقفة خلاقة وفي تواصلهم الحضاري جدلا راقيا، يعكس -عند التحليل الأخير- نضجا واستقلالا في الرؤية واتساعا وعمقا في التذوق والتفاعل المتحرك الذي يؤكده عبد الصبور- بشكل غير مباشر- في أحد تعريفاته للشعر باعتباره صوتا لإنسان منفعل يتميز عن الآخرين بقدر ما يتشابه معهم. وبقدر حرص عبدالصبور على فرادة صوته الشعري على مستوى "الصياغة" كان يحرص أيضا على تأكيد تنوع مذاقات الشعراء على مستوى "التلقي"، وكان كثيرا ما يصرح بأنه قد يعجب بقصيدة لسبب يختلف عن إعجابه بقصيدة أخرى، وأنه قد يحب الموسيقى في شعر ويمجها في شعر آخر، ويحب التدفق والزحام في قصائد ويكرهه في قصائد أخرى. ثم يختم كلامه قائلا: "وهكذا تحتاج كل قصيدة ناجحة عندي إلى مدخل خاص لتذوقها". وقد تساءل كثيرا عن سبب انجذابه لهذا التنوع الجمالي واتساع دائرة تذوقه؛ فوجد الإجابة في تنوع اتجاهات اللوحات المعلقة على جدران حجرته، رابطا بين رحابة مدارس الشعر وتعدد مذاهب الفن التشكيلي، مستفيدا من رؤيته التكاملية للتناغم بين فنون الشعر والرسم والموسيقى في إبداعاته الشعرية وممارساته التطبيقية وفي تأملاته لأنهاج الشعراء المغايرين لنهجه في الكتابة، مقدرا قيمة التنوع في تراثنا الشعري القديم أيضا؛ حيث يقول: "فمن يستطيع القول أن المتنبي وحده هو شاعر العربية دون شعراء الغزل في العصر الأموي وشعراء الخلاعة في العصر العباسي. أليس الشعر مذاهب شتى في القول وكل شاعر مهيأ لما هيئته له طبيعته. أليس عشقنا في الموسيقى لسيمفيونيات بتهوفين هو نفس عشقنا لأشجان تشايكوفسكي وليليات شوبان". وفي هذا الإطار من التدبر والفهم وتقدير التنوع والتجدد نراه يعلق على قصائد أدونيس السيريالية قائلا: "ولكن العسير حقا هو أن نقرأها بمنهج قراءتنا للشعر التعبيري بشتى أشكاله أو نقرأها بمنهج الشعر الرمزي فيكفينا عندئذ أن نستكشف المرموزات ثم نمضي بعد ذلك مطمئنين، وقد تفتحت لنا أوراق القصيدة كما تتفتح الوردة أو أن نقرأها كما نشهد اللوحة التأثيرية التي يتوفر فيها قدر من الحرية مع قدر من المألوف"؛ لندرك أن رحابة النظرة والإيمان بالتعدد هي ثمرة الحوار بين الفنون داخل ذائقة عبدالصبور ووعيه من ناحية وثمرة الثقافة الأدبية العصرية المتسعة من ناحية أخرى. وبالرغم من أن عبدالصبور قد رحب بتوظيف السيريالية في شعرنا المعاصر باعتبارها " تجربة يستطيع أن يفيد منها الشعر العربي الحديث بأن تزحزحه قليلا عن قوالبه التي تجمدت" فقد رفض بعد ذلك غموضها المستغلق وتعاليها علي ذائقة القارئ المحب للشعر، وهذا بالطبع لا يتعارض مع إيمانه بالتنوع الشعري الخلاق وتعدد مذاقات الشعراء. على أن صلاح عبدالصبور صاحب المقالات النقدية الضافية كان قادرا أيضا على تقديم ذائقته المتسعة ووعيه النقدي المنضبط في عبارات حسية مكتنزة عبر صياغة تجمع بين عمق الإحاطة ودقة التجريد المكثف وجمال المجاز النابض، في صياغة ترتقي إلى صياغة جوامع الكلم مضفرة بما يمكن أن أطلق عليه شعرية الأداء الحسي الشارح، حيث يجترح لغة ذات طبيعية مجازية لافتة تجسد هويته "شاعرا" وذات عمق معرفي متمرس تؤكد رؤيته "ناقدا" تتجلي براعته في تعليقه على منجز شاعر أو ملامحه الأسلوبيةأو تحولاته الجمالية أو إحدى قصائده، وعلى ظاهرة شعرية أو مذهب شعري قديم أو جديد؛ فنراه يقول عن أمير الشعراء: "شوقي شاعر ضخم، أضخم مما يلوح للناظر إليه من بعيد.. إن شوقي هو صورة العصر الأدبية والفنية، هو هرمه الواسع القاعدة، المرتفع القمه الذي يمثل كل حجر من أحجاره شيئا من روح العصر". ونراه يقدم خلاصة وعيه بالمعري في ثلاث جمل مكتنزة: شاعر "وعى دور الفن، وحمل أمانة الكلمة ووفى بحق الموهبة"، ويلخص تحولات شعرية إيليا أبي ماضي في تمثيل بصري دال قائلا: إن دورة الشاعرية عند أبي ماضي مثل قوس يبدأ بداية متواضعة، لا يشفع لها إلا النوايا الطيبة، ثم ما يلبث أن يمتد متعاليا حتى يصل إلى قمته، فيظل فيها مدى من الزمان ثم يعود مرة أخرى إلى نقطة البداية". ويربط ذلك التراجع بغياب البيئة الثقافية المستنيرة المدركة لرسالة الشعر ودور الشاعر بعد موت جبران ورحيل نعيمة أعمق متذوقي شعر أبي ماضي، مستحضرا فاعلية التلقي الواعي والتذوق الناضج قبل شيوع نظرية التلقي وانتشار دورها في مشهدنا النقدي المعاصر. ونراه يعلق على تجربة علي محمود طه قائلا: "ورغم كثرة مقلديه في زمانه إلا أن أحدا لم يتمثله ويحلق به إلى أفق جديد.. فكأنه نهير شق طريقه على مهل ثم تسرب في الرمل". وبرغم رشاقة صياغة صلاح عبدالصبور المجازية البصرية المعتادة التي تجسد شعرية الأداء الحسي الشارح، فليأذن لي شاعرنا الكبير أن أخالفه الرأي في حكمه على "صاحب الجندول"؛ لأن على محمود طه لم يكن نهيرا عابرا في تاريخ الشعر العربي الحديث بقدر ما كان نهرا كبيرا بالغ العذوبة متعدد الروافد، ولم يتسرب في الرمل بل استمرت بصمته على شعراء أتوا بعده وكتبوا بطريقته ومازال بعضهم يكتب بطريقته حتى يومنا هذا، وفي تصوري النقدي أن نزار قباني هو الشاعر الذي تمثل على محمود طه وتجاوزه ثم انطلق إلى أفق جديد. على أن ذلك التوقف العابر لن يمنعنا من مواصلة تأمل ملامح التذوق لدى صلاح عبدالصبو حيث نراه يعبر عن ثورية الشعر الحر ممثلة في تجربة السياب ومبررات تحوله إلى الشكل التفعيلي الجديد بعد التمزق الجزئي الذي قامت به جماعة أبولو في البنية الموسيقية للقصيدة العربية قائلا: "لقد ضاق الإزار عن استيعاب الجسد الممتد وضاق الإناء عن احتواء السائل الفوار". ونراه يقول في سياق تعليقه على قصيدة حجازي (قصة الأميرة والفتي الذي يكلم المساء) بمجلة الآداب البيروتة: " شاعر ملهم يعرف أين يضع كلامه.. ويعرف متى يرمز ومتى يسفر عن كل وجهة" ويقول في السياق ذاته معلقا على تجربة نزار قباني في قصيدته "إلى مسافرة"، معبرا عن عدم كمال نضج القصيدة وتخمرها داخل شاعرها بسبب تعجله في إنهائها: "إن نزارا في هذه القصيدة قد أسند عوده إلى ظهره ودندن دون أن يغني". ومن الطريف أن هذه الكلمات النقدية الموجزة كانت صدى تفاعليا لتجربة عبدالصبور ذاته في ختام مقطع "الحب" بقصيدة "أقول لكم" حيث جسد -بطريقة فنية ماكرة لا تخلو من عذوبة- عجزه عن إجابة طلب حبيبته بكتابة قصيدة يتغنى فيها بذاته، فما كان منه- وهو الشاعر/ المغني الحزين- إلا أن أجاب: وقالت لي لوجهي والهوى يا شاعري غنيت فغن الآن أغنية لقلبك أنت أسندت عودي على الضلوع ورحت أستقطر النغم فأن عودي على الضلوع وغمغم الصوت وانبهم لحني، فلتسعف الدموع" لم تسعف "الغمغمة" صلاحا لإتمام قصيدته كما لم تسعف "الدندنة" نزارا لإجادة قصيدته، لكن بقى ذلك التراسل التعبيري بين الذائقة النقدية المدربة والممارسة الإبداعية الخاصة باعتبارها مرجعا لها وبقي النمو الداخلي والتراسل الرمزي داخل تجربة صلاح عبدالصبور الكبري، حيث تنامت تلك اللفتة الوجدانية الطريفة لتصنع فيما بعد قصيدة من أعمق قصائد عبدالصبور وهي "حكاية المغني الحزين" التي يقول شاعرنا في أحد مقاطعها الدالة: "وصنعتي يا سادتي مغني، معانق قيثارتي، فؤادي المطعون بالسهام الخمسة، صندوق سري، خزنة المتاع روضتي وقبري مجسدا تحول المغنى الحزين العاجز عن التعبير أو المصطنع ذلك لإضفاء جاذبية غامضة محببة على قصيدته العاطفية إلى المغني الحزين المتألم للعقم الذي أصاب السياسة وانعكس على المجتمع قبيل النكسة فأدى إلى الهزيمة الفادحة بعد أن استحالت فاعلية الحواس الخمس سهاما خمسة ارتدت إلى صدر الشاعر الرائي مجسدة تراجع كل القيم الجميلة تحت أقدام الكذب والادعاء والقهر والطغيان. وبرغم ذلك فقد ظل المغني الحزين حاملا قيثارته حتى بعد أن طرد بلاط السلطان ملتزما بالشعر التزامه بالحياة مؤمنا بدور الشاعر الإنسان، قائلا: "من واجب الإنسان أن يجمل حياته القصيرة على الأرض، وأن يخلع على فوضاها وتنافرها لونا من حسن القصد، وأن يعمق سطحيتها بابتكار معان وإشارات تجعلها أكثر معقولية، ولكن هذا كله لا يتحقق إلا إذا أصبح الإنسان إنسانا". ولا شك أن كتابة الشعر وتذوقه هما أجمل ما يمكن أن يجعلنا أكثر رقيا وتحضرا وأعمق رؤية وبصيرة.