في زمنٍ يزداد فيه الشعر انكماشًا داخل قوالب السوق أو يتوارى خلف ترف لغوي لا يلامس نبض الحياة، تأتي تجربة د. سارة حامد حوّاس في ديوانها "جبل على كتفي" كصرخة ناعمة، لكنها مدوّية في عمقها، تطرح علينا سؤالًا جوهريًا: ماذا يحدث عندما تخرج القصيدة عن نطاق الحقول البلاغية، وتتجذر في هشاشة الإنسان؟ إنها كتابة لا تبحث عن الإيقاع، بل عن الاختلال. لا تهتم بالبنية، بل بتشظي البنية. لا تهادن المعنى، بل تشكك فيه. ففي هذه النصوص، لا نعثر على القصيدة كما عرفناها، بل على أطياف لغوية، تتسلل كالهواجس في ليل وعي مضطرب. كأن النص ينحت نفسه من الطين الخام للروح، لا من الأحجار المصقولة للأسلوب. "جبل على كتفي" ليس عنوانًا مجازيًا، بل جملة وجودية، تعلن أن ثقل الحياة، بكل ما فيه من قلق ومعنى وفقدان، قد استقر فوق الذات. وهذا الثقل لا يُروى بل يُعاش، لا يُتغنّى به بل يُنزَف. من هنا، فإن الكتاب ليس ديوان شعرٍ بالمعنى التصنيفي، بل شهادة ذات مأزومة، تكتب من منطقة ما بعد الألم، من منطقة اللايقين، من الحافة التي لا سند لها. تتفكك الذات في هذه التجربة، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها في أقصى درجات الوعي بذاتها وبعالمها. فلا غرابة أن تتكرر تصاوير تعابير الانكسار والانفصال، لا بوصفها مزاجًا سوداويًا، بل لأنها تعبير عن مقاومة داخلية ضد اللغة، ضد التنميط، ضد الاختزال. نحن أمام كتابة تعي تمامًا أن الشعر قد خان أصوله كثيرًا، وأن اللحظة الراهنة لا تحتمل إلا الصدق المجروح، المتلعثم، المنكسر. لا تسعى الكاتبة إلى بناء قصيدة، بل إلى هدم القصيدة من الداخل، لتقيم على أنقاضها نصًا عفيًا جديدًا ينهض من شظايا الحلم والتجربة والذاكرة. هناك رفضٌ عميق لكل ما هو نهائي أو مغلق. القصائد قصيرة، مقطعة، مترددة، كأنها تصرخ من فراغ داخلي لا يمكن ترميمه. ولعل في هذا التقطيع نوعًا من مقاومة السرد، ونبذًا للنهاية. كل مقطع هنا هو بداية لجرح، لا يُكمل الآخر، لكنه يتجاور معه كما تتجاور الخسارات. ثمة وعي نسوي باطني لا يرفع شعارات، بل يتسلل في بنية النص نفسها: في طريقة انكساره، في مقاومته للتراتبية، في انحيازه للهمس على حساب الصراخ، في إعادة تعريف الألم كهوية لا كعار. لا تقدم الكاتبة "أنثى" تطلب تعاطفًا، بل "ذاتًا" تسائل العالم. وهذا، في حد ذاته، فعل تحرر. في هذه التجربة، لا مكان للتطريب. الصوت منخفض، لكنه حادّ. اللغة قليلة، لكنها دامية. القصيدة تتحول إلى فعل وجودي، إلى محاولة للتماسك وسط السقوط. والمفارقة أن هذا الانكسار الجمالي يفضي إلى نص أقوى من كثير من القصائد المكتملة شكليًا، لأنه لا يحاول أن يكون شيئًا سوى ما هو عليه: مجرد وجع صادق مكتوب بحبر خافت. إننا هنا أمام كتابة تسير على أطراف أصابعها، لا تريد أن تملأ الفراغ، بل أن تعترف به، تعايشه، تمنحه صوتًا. كتابة تشبه التنفس تحت الماء، حيث كل نفسٍ معجزة، وكل صمتٍ حياة. بهذا المعنى، جبل على كتفي ليس ديوانًا، بل بيانًا داخليًا. لحظة نادرة من الكتابة التي لا تصرخ، بل تتهجى معاناتها. لا تعلن، بل تلمّح. لا تشرح، بل تشير. إنها كتابة امرأة تعرف أن اللغة قد لا تنقذ، لكنها على الأقل تمنح الشكل المؤقت للتيه، وتمنحنا نحن القراء مرآة مشروخة، نرى فيها أنفسنا أكثر صدقًا مما لو نظرنا في مرآة كاملة.