لقيت تصريحات الرئيس الأمريكي الأخيرة بشأن سد النهضة استحساناً من بعض المراقبين الذين اعتبروا ذلك تحولاً إيجابياً في الموقف الأمريكي، بينما اعتبرها البعض غزلاً صريحاً للسياسة المصرية، أو تذكيراً بورقة ضغط يمكن توظيفها للترغيب أو الترهيب، وقد جاء الرد المصري على التصريحات ذكياً متوازناً مرحباً بكل الجهود الساعية للحل ومستوعباً لكل وجهات النظر. فهل حصحص الحق وأدرك العالم مخالفة إثيوبيا لمعاهدتي عامي 1902 و1929 واللتين تعطيان لمصر حقوقها التاريخية على الماء، وتمنع الإضرار بها، وتمنحها حق الفيتو على المشروعات التي تقام على النيل، مستندة إلى ما سمي (اتفاق عنتيبي 2010) والذي يلغي تلك الحقوق، هذا الاتفاق الذي عقد بين دول المنبع وحدهم وبإرادة منفردة منهم دون أن توقع عليه مصر. وعن نهر "النيل" قال الرئيس "ترامب" في تصريحاته " إنه مصدر هام جداً للحياة والدخل في مصر" ... وذلك -بالطبع- طبقاً لما تقرره واقعية الجغرافيا وصرامة حسابات علم الاقتصاد، إلا أن الحقيقة والتاريخ وخصوصية العلاقة الأبدية بين النيل وأبنائه كل ذلك يؤكد أن النيل يفوق ذلك بكثير ... فمنذ آلاف السنين والمصريون لا ينظرون إلى "النيل" باعتباره مجرد نهر يمر في بلادهم يحمل لهم الماء، وإنما رسخ في الوجدان العام أنه كائنهم الحي، الذي يشعر بنبضات قلوبهم، ويوحدهم ويتوحد معهم، حتى بات من بديهيات يقينهم أن من شرب ماءه يوماً لا بد أن يعود إليه. وظل "النهر الخالد" في نفوس المصريين مصدراً للأمان والطمأنينة، وقاهراً للخوف وملاذاً للخائفين، ليؤكد لهم ذلك القرآن الكريم في صورة بالغة الروعة والتفرد موحياً إلى أم موسى -عليه السلام- "فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي ..." فتهرع السيدة إلى النيل قاهرةً خوفها وملقيةً برضيعها في أحضانه، ليتولى النهر الخالد تنفيذ مشيئة الله.. "فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِل.." ولتبدأ أولى خطوات موسى -عليه السلام- من أحضان نهرٍ يقهر الخوفَ، ... وآلاف الآلاف من الدلالات والوقائع والمدونات والصور والحكايات والأساطير روتها على شطّهِ الجميلٍ ... "ما قالتْ الريحُ للنخيلٍ" وبادل "النيل" أبناءه العشق، فلم يؤخر مدداً، ولم يخلف موعداً، واحتضن على ضفافه أعظم حضارة عرفها التاريخ، يجري على أرض المحروسة في هيبة وجلال، يحمل الخير، وينثر البهجة، ويبتسم للمهمومين، ويربت أكتاف المتعبين، وينصت لأحاديث العشاق، ويضحك من نزق الصبية وثرثرات الرجال، ويعفو عن كثير... وما إن يوشك "ساحر الوجود" على إتمام رحلته المقدسة، حتى يفتح ذراعيه معانقاً دلتاه؛ ليقف بها شامخاً على حدود البحر، مانحاً إياه بعض عذوبته، وقابضاً أبداً على هويته ويظل " بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ". وتؤكد هذه العلاقة الأبدية المتجذرة بين النيل وأبنائه، أن هناك من القضايا في حياة الشعوب ما تحيطها القداسة، وتلفها كل الخطوط الحمراء، ولا تصلح أن تكون محلَ مساومةٍ أو ضغطٍ أو فرضٍ لشرعيةِ الأمر الواقع، وهو ما كان على الحكومة الإثيوبية أن تعيه جيداً. ولا يمكن أن يسعى المصريون لحرمان غيرهم من الاستفادة بالمياه، ولكنهم لن يرضوا لنيلهم ضيماً ولا حيفاً، وتجللهم الطمأنينة في قدرتهم على ذلك بكل الخيارات المطروحة؛ ثقةً في أنفسهم وفى قياداتهم السياسية والدبلوماسية وقواتهم المسلحة، وإيماناً بالنهر الذي يتيهون به فخراً كل يوم في نشيدهم الخالد "وعلى كل العباد ... كم لنيلكٍ من أيادي."