الدولة ليست مبنىً يُغلق أو يُفتح، وليست عَلَمًا يُرفع على سارية. الدولة فكرة، كيان، تنظيم يضبط حركة المجتمع ويصون وجوده. وقد استقر العقل السياسي عبر القرون أن الدولة لا تقوم إلا على ثلاثة أركان: شعب، وإقليم، وسلطة سياسية. قد يكون الشعب متعدد الأعراق، مختلف الأديان، متباين اللهجات والانتماءات. لكن ما يجمعه هو عقد قانوني واحد يحفظ الحقوق وينظم الواجبات. هذا العقد لا ينجح إلا بوجود سلطة سياسية تحكم بالقانون، وتفصل بين الناس بعدل، وتُنفذ ما تشرّعه من قواعد، لا أن تكتفي بالوعظ والفرجة. السلطة هنا ليست سيفًا يُشهر ولا صوتًا يُعلو، بل منظومة مؤسسات تفرض القانون لا الأهواء، وتحكم باسم الشعب لا باسمه. فإذا انهارت السلطة السياسية أو تآكلت مؤسساتها، تبدأ دورة الانهيار. وتُفتح أبواب الغابة، حيث لا قانون سوى الغلبة، ولا رابطة إلا الدم والطائفة، ولا أمن إلا مع من يشبهك ويخاف على أولاده كما تخاف. الناس في لحظات الفوضى لا يبحثون عن أفكار، بل عن حماية. فإذا غابت الدولة، بحث المواطن عن رابطة بديلة: قبيلة تحميه، أو طائفة تصرخ لأجله، أو جماعة دينية تُغطي عجزه باليقين. هنا يصبح كل شيء مهيأ للسقوط: • القانون يتحوّل إلى ورقة مهترئة لا تحمي أحدًا. • الأمن يُخصخص، والسلاح ينتشر، والجار لا يثق في جاره. • وتتحول فكرة الدولة من "نحن" إلى "أنا ومن معي فقط". وفي هذا الفراغ، يتسلل الطامعون. لا أحد يهاجم دولة قوية. إنما يدخلون عندما تتآكل، كما ينهش الذئب الغزال المريض في القطيع. يدخل الخارج بحجة حماية طائفة من أخرى، أو دعم أقلية ضد أكثرية، أو ردع جماعة انفلتت من عقالها. لكنه لا يخرج إلا بعد أن ينهب، ويقسم، ويزرع السم بين الأشقاء. ما حدث في سوريا لم يكن مجرد حرب، بل انهيار مفهوم الدولة من جذوره. حين تلاشت السلطة السياسية وتحولت إلى ميليشيات ومخابرات، دخلت البلاد في دوامة من الفوضى الطائفية والتدخلات الخارجية والخرائط المتكسرة. ضاع الإقليم، وتفتتت الأرض، وتشرد الشعب. ولم يعد أحد يسأل عن الوطن، بل عن "من يحكم الحي"، و"لأي فصيل تنتمي". وهكذا، يتكرر الدرس مرة بعد مرة: الدولة لا تحيا بالشعارات، بل بالمؤسسات. ولا تصمد بالكلام، بل بالقانون. إذا سقطت السلطة السياسية، فكل ما سواها قابل للضياع. الشعب يتبع من يحميه، لا من يكتب له الخطب. والأرض لا تحمي نفسها إن لم تحمها الدولة. قال ابن خلدون: "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل أساس الملك." والعدل لا يتحقق إلا بوجود دولة قوية، تحتكر السلاح، وتُطبّق القانون، وتحفظ السلم بين الناس. في النهاية: الدولة ليست رفاهية، بل ضرورة وجود. والسلطة السياسية ليست زينة، بل عمود البناء. فإذا سقط هذا العمود، انهارت الدولة كلها، وتحولت الأرض إلى غابة، والشعب إلى فرائس.