وهي مختلفة عن سرديات الحروب في العصور الوسطى والقديمة، وإن تقاطعت معها على بعض المستويات، وطوّرت بعض معالمها على مستويات أخرى. على سبيل الإشارات السريعة، ارتبطت سرديات الحروب في العصور الوسطى والقديمة، أحيانا، بما كان يكتبه المؤرخون، المنتمون إلى طرف من أطراف الحرب، أو بما كان يكتبه الشعراء، على سبيل "تمجيد" طرف من أطراف الحرب أيضا، أو بما كانت تتضمنه الملاحم والسير الشعرية (التي نهض أغلبها على موضوعات: الحرب، والحب والرحلة) التي كانت تشيد بالبطولات الجماعية أو الفردية الخالصة، المجاوزة لحدود القدرة البشرية.. وفي أكثر هذه الأحيان لم تكن هذه السرديات قائمة على المشاهدة المباشرة، فلم يشارك أغلب المؤرخين والشعراء في الحروب التي كتبوا عنها كتاباتهم أو قصائدهم او ملاحمهم وسيرهم .. والتمثيلات على هذه السرديات القديمة أكثر مما يمكن إحصاؤه.. صوت المؤرخ، وصوت الشاعر الفردي أو الجماعي، في تلك الفترات من العصور الوسطى والقديمة، كانا أشبه ب"لسان حال"، أو (بتعبيرنا الحديث) كانا تمثيلا مبكرا لما نسميه الآن "الجهاز الإعلامي" لأحد أطراف الحرب (السلطان أو الأمير أو الملك .. إلخ)، أو تجسيدا جماعيا لأمنيات الشعوب (في حالة الملاحم والسير).. وبذلك كانت سرديات هذا المؤرخ أو الشاعر عن الحرب تعبيرا عن "النصر المظفر"، أو تجسيدا لأمنية في تحقيق هذا النصر. في العصر الحديث نسبيا، خصوصا في القرنين التاسع عشر والعشرين، اختلفت "سرديات الحروب" بعض الشيئ؛ إذ استحدثت إمكانات جديدة لتقديم بعض ال"معلومات" عن الحروب تتجاوز الخطاب التمجيدي أو خطاب الأمنيات المأمولة.. كان من هذه الإمكانات ظهور أشكال ل"التوثيق" والإحصاءات والنتائج، خلال تقارير المراسلين العسكريين، وكان منها، في مرحلة متأخرة من تلك الفترة، استخدام لبعض الصور، بل كان منها أيضا كتابات روائية، ثم أفلام سينمائية تسجيلية وروائية، عن الحروب، قام بعضها على تعدد وجهات النظر، بما يتجاوز الصوت الأحادي في شعر الحروب.. وترتب على هذا كله ظهور "سرديات مختلفة" للحرب الواحدة.. وبدا في هذا كله أن هناك قدرا ما من "الموضوعية" في رصد وقائع وتجارب الحروب.. وإن كان تأمل هذه السرديات المختلفة، بعمق، يكشف عن جوانب كثيرة بعيدة عن الموضوعية، وربما يكشف عن جوانب كثيرة تناقض الموضوعية نفسها.. وتمثيلات هذه السرديات الحديثة للحروب، في القرنين الماضيين، أكثر مما يمكن إحصاؤه أيضا. في حروب ومعارك قريبة، خلال العقود الماضية.. دخلت وسائط جديدة "على الخط" في تكوين وفي صياغة سرديات الحروب، تجاوزت الكلمة والصورة والفيلم السينمائي إلى "الفيديوهات" المصورة لبعض المعارك، التي يتم بثها بشكل مباشر على قنوات تليفزيونية ثم على منصات كثيرة في وسائط التواصل (أو يتم حجبها والتعتيم عليها أو مواجهتها بفيديوهات مضادة)، أو يتم تصويرها من قبل أفراد ورفعها على منصات التواصل.. واقترنت هذه الفيديوهات بانطباعات وتعليقات متزامنة، متعددة ومتباينة، تكشف عن الانتماءات المتعددة للأطراف المتحاربة، وعن رؤى مختلفة لمسار المعارك أو الحروب وتوقعاتها.. وكل الأحكام التي تصدر أو تتصدر هذه الانطباعات والتعليقات مفهومة، لان أغلب هذه المعارك والحروب لم تكن عادلة أبدا.. ومعظمها قام على أشكال من الغطرسة، أو العدوان الصارخ، أو الأطماع التي لا حدود لها، أو الاستمرار في النزوع الاستعماري أو الاستيطاني الذي لا يزال قائما بصيغ جديدة... مما جعل المواقف من هذا كله تلوح واضحة في التعليقات على تلك الفيديوهات.. ثم أخيرا، في السنوات القليلة القريبة، انتقلت سرديات الحروب والمعارك نقلة جديدة؛ إذ طرأت على هذه الفيديوهات أشكال من التزييف "الواضح" أو "العميق"، الساذج أو المتقن، ثم طرأت عليها إمكانات جديدة أتاحتها برامج الذكاء الاصطناعي التي تتطور يوما بعد يوم.. وهكذا، في هذه الفيديوهات الجديدة، في هذه المرحلة الجديدة (وفي المراحل القريبة التي سبقتها)، ترسخت أداة مهمة من الأدوات التي تصوغ، أو تقوم ب"توجيه"، سردية الحرب (الإعلامية أو النفسية)، في وجهات مقصودة بعينها.. وأصبحت سرديات الحروب، بوضوح أكبر، جزءا أساسيا مهما من أسلحة الحروب نفسها. ردود الأفعال التي اقترنت بهذه الفيديوهات، الحقيقي منها والزائف، التي قامت بالتعليق على هذه الفيديوهات على منصات التواصل الجديدة، ظلت استمرارا للتعبير عن المواقف إزاء الأطراف المتحاربة، وظل كثير منها متصلا ب"الثأر الرمزي" إزاء الطرف المعتدي في الحروب (غير العادلة في أغلب الأحيان)، وقامت أحيانا بتقديم ما يشبه "التحليلات" العسكرية للحرب، في كتابات غير متخصصة يلوح بعضها غير بعيد عن تحليلات كثيرين من المشجعين على مباريات كرة القدم.. ردود الأفعال هذه، في تلك التعليقات (وكلها ردود أفعال مفهومة أيضا)، تحتاج إلى دراسات مفصلة، تتناول الابعاد المتعددة في هذه الردود: ما يمثل منها نوعا من "الثأر" الرمزي من الأعداء، وما يهتم منها بالمعلومات، وما يبلور منها اتجاهات الرأي العام، وما يعكس منها الأمنيات الخالصة، وما يتصل منها ب"النخع" (أو بما وصفه الكاتب الأستاذ أكرم القصاص ب"الهبد" في مقالة من مقالاته)...ويمكن لهذه الدراسات أن تكشف عما بقي، وعما اختلف، وعما استجد.. في مسيرة سرديات الحروب القديمة والحديثة.