في زحام الدنيا، حين تشتد العواصف وتضيق المسالك وتغدو القلوب مرهقة من الأقدار، يهبّ الله نسمة من رحمته إلى النفس المؤمنة، فيملأها سكينة، ويشعل فيها شعلة لا تنطفئ، شعلة من نور الإيمان، لا تتغذى على الواقع، بل تستمد زيتها من الغيب، وتظل مشتعلة ولو أُطفئت كل أنوار الأرض. ليس الغرض من الإيمان أن يُبعدنا عن المصاعب، بل أن يجعلنا نواجهها بوجه لا يعرف الانكسار، بقلب لا يخاف المجهول، بروح تتعلق بحبل لا يُقطع. يريد الله أن نحيا في هذه الدنيا لا كأرقام في طابور المعاناة، بل كقلوب نابضة بالأمل، متصلة بالسماء، تمشي في الأرض بثبات لأن ما في داخلها أقوى مما يحيط بها. إن الإيمان الحقيقي لا يزدهر في النعيم، بل ينمو وسط الشقاء، ويترسخ كلما تهاوت من حوله جدران الطمأنينة الزائفة، وهو لا يحتاج إلى دليل مادي، بل إلى يقين داخلي بأن الله أقرب مما نتصور، وأن رحمته لا تُرى بالعين، بل تُحسّ حين تنهار كل السبل ويظل القلب مطمئنًا. ذلك الأمل المتصل بالله لا يشبه أي أمل دنيوي، هو ليس تفاؤلًا أعمى، بل نور يقودنا وسط الظلام، وعدٌ خفي بأن بعد كل ليل فجر، وبعد كل هم فرج، وبعد كل دمعة بسمة. إنه الأمل الذي يجعل الموج لا يُغرق، والريح لا تقتلع، والمحن لا تقتل. حين تمتلئ النفس برحمة الله، تصبح كالسفينة التي قد تتلاطمها الأمواج، لكنها لا تغرق، لأنها تمضي بربّان من السماء، وتصبح كالأرض التي يشقها الجفاف، لكنها تخبئ في باطنها حياة تنتظر قطرات الرحمة لتنبت. وما أعظم تلك اللحظة التي يدرك فيها الإنسان أن نجاته ليست في الخلاص من الألم، بل في وجود الأمل، وأن الله لا يترك قلبًا تعلق به، ولو أنه في بحر من الظلمات، هو أمل لا يُشترى ولا يُعلَّم، بل يُغرس، ويُروى من ينابيع الطمأنينة، ويُثمر في وقت لا يعلمه إلا الله. فلنحفظ في صدورنا تلك الشعلة، لا تدعها تنطفئ تحت ركام الخوف، ولا تتركها تبهت من عواصف القلق، اجعلها سراجك في الطريق، ترشدك حين يضيع الاتجاه، وتواسيك حين يعجز المنطق عن تفسير الأقدار. هي شعلة الإيمان.. نار لا تحرق، بل تنير، وهيبة لا تُرى، لكنها تملأ القلب حياة.