فى زمن تعصف فيه الأزمات كالعواصف، وتتراكم فيه الهموم حتى تغدو جزءاً من روتين الحياة، لم يعد البحث عن الطمأنينة ترفاً، بل صار حاجة ملحة لا غنى عنها. وكل إنسان يبحث عنها بطريقته؛ فى التحدث إلى صديق، أو متعة مؤقتة، أو فى محاولة للهروب من واقع ثقيل. لكن الطمأنينة الحقيقية، العميقة، المستقرة، تلك التى لا تذوب مع أول اختبار جديد، لا يمنحها إلا كلام الله وآياته المحكمات. القرآن الكريم ليس كتاباً محفوظاً فى الرفوف أو موروثاً يُستحضر فى المناسبات الدينية أو عند الموت والمآتم، بل هو رسالة حيّة، تنبض بالحياة كلما اقترب منها القلب، وكلما منحها الإنسان مساحة من وقته وانتباهه. فهو خطاب من الله، لا يحده زمن ولا تُبليه الأيام، يحمل السكينة لكل من أتعبته الحياة، ويعيد ترتيب الفوضى الداخلية بلطف إلهى غير مرئي. فبمجرد أن يفتح المؤمن المصحف، تستقبله الآية الأولى:(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة: 1). ليست مجرد افتتاحية، بل مفتاح نفسى وروحي، يذكرنا أننا فى حضرة رحمة مطلقة، وعناية لا تغيب من الرحمن الرحيم بعباده. ومن هنا تبدأ الرحلة مع الطمأنينة. والقرآن لا يعدنا بأن تكون الطرق سهلة ولا الأيام خفيفة، لكنه يزرع فينا القدرة على العبور دون أن ننكسر أو نستسلم لليأس والقنوط. ولعلنا هنا نستذكر حين كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فى أشد لحظات المطاردة والخطر، يُطمئن صاحبه فى الغار بقوله: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة: 40)، كانت تلك الكلمات تجلياً خالصاً للطمأنينة، ودعوة خالدة للإيمان بمعية الله التى تغنى عن كل شيء.ويبلغ اليقين مداه فى قوله تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28). هى ليست مجرد آية، بل تجربة يخوضها كل من قرأ كلام الله فى لحظة ضيق فشعر بالاتساع، وكل من دعا دعاءً فنزل السلام والسكينة على قلبه دون تفسير. والذين جعلوا للقرآن الكريم وقتاً من يومهم، وخصصوا له ورداً ثابتاً، يدركون كيف تتبدل الأحوال من الداخل قبل أن تتبدل من الخارج. بضع آيات قادرة على إسكات ضجيج الداخل، وبعث نور خفى فى الروح لا تراه العين، لكنه يشعر النفس بأنها فى رعاية لا تنام، كما قال الله تعالى: «وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ» (الإسراء: 82)، شفاء لا يقتصر على الجسد، بل يتسلل إلى مواضع الألم فى النفس والذاكرة. نعم حين تتكالب الهموم، وتتعثر الخطى، يبقى القرآن باباً لا يُغلق، يفتح ذراعيه لكل من عاد من تعب الحياة. لا يشترط لحظة مثالية ولا صفاء ذهن، يكفى أن تقترب بقلبك، ليقترب منك بسلامه. ومن بين آياته، تستشعر وعده الذى لا يُخلف، فيطمئن قلبك قبل أن تتحسن ظروفك. ففى هذا العالم الذى يتغير كل لحظة، وتغرق فيه النفوس بالقلق والتشتت، يقدم القرآن نفسه لا كمهرب من الواقع، بل كموطن حقيقى للاستقرار. لا كمسكن عابر، بل كطمأنينة جذرية، تزرع الثبات فى القلب فلا تقتلعها العواصف. هو كتاب من السماء، نزل ليعيد للإنسان توازنه على الأرض، ويغرس فى روحه الأمان العميق، الذى لا تمنحه الدنيا، ولا يعرف طريقه إلا من عرف طريق القرآن.