انتهيت، مؤخرًا، من قراءة كتاب "الحالة السردية للوردة المسحورة" للكاتبة والباحثة منى أبو النصر، والصادر عن دار الشروق، وقد اخترت أن أصف منى ب"الباحثة"، لأن هذه هي النقطة التي سأركز عليها في قراءتي.. يدور الكتاب حول "الوردة" بوصفها مادة ثقافية يمكن من خلالها قراءة العالم ومحاولة فهمه، وربما يكون السؤال الأول الذي أوجهه إلى منى أبو النصر – وأتمنى أن تجيب عنه في مقدمة الطبعة الجديدة من الكتاب – لماذا الوردة؟ وأنا هنا لا أستنكر اختيارها، بل أود الاقتراب من شخصية الباحثة فيها، أقو لها: ما علاقتك الشخصية بالوردة؟ ما تاريخك معها؟ ولماذا اخترتها موضوعًا لكتابك؟ .. أسأل ذلك لأن البحث الجيد، والكتاب الجيد، هو ذلك الذي نكتبه إجابة عن سؤال يؤرقنا نحن قبل أن يؤرق الآخرين، وهذا كتاب جيد، وحتماً أرقت الورد منى بصورة ما، فحاولت الاقتراب منها وقراءتها. زقد تتبّع الكتاب في خمسة عشر فصلًا، إضافة إلى المقدمة، كلَّ ما يتعلق بالوردة على المستويات الثقافية والفلسفية والفنية، وقد احتشدت منى للموضوع واستعدت له بقدرة واضحة على التأمل واستخلاص المعاني، كما يستخلص الناس العطور من الزهور، كما تسلّحت بقراءات ومعارف عربية وأجنبية (أدبية وفلسفية) وقدّمت قراءة ثقافية وافية. والورود - كما نعرف - عنصر مهم في حياتنا حتى وإن ظن بعضنا أنها من أمور الرفاهية، لكنها ليس كذلك، والكتاب من أكثر الأدلة على هذا الكلام، فمن خلال الوردة، حاولت منى قراءة العالم وجعلتنا نتنبه إلى رمزيو الزهور وارتباطها بالميلاد والوفاة، وعلاقتها بالمرض والصحة، وإلى كم من الدلالات غير المتناهية. لم تخضع منى لتفكير عاطفي، بل استندت إلى أدبيات ثقافية ربما لم يكن صنّاعها على إدراك تام بالمعنى الذي توصّلت إليه، وهذا باب مهم في التأويل، فالباحث الذي يجعلك ترى الفيلم الذي شاهدته من قبل كأنك تشاهده لأول مرة، أو تقرأ القصيدة التي قرأتها مرارًا كأنك تقرؤها للمرة الأولى، أو تمشي في الطريق ذاته وكأنها خطوتك الأولى فيه، هو باحث يحسن ما يصنع، ويقيم علاقة قوية بينك وبين موضوعه.. وقد نجحت منى في ذلك، إذ دفعتني للبحث عن الأفلام التي ذكرتها، والكتب التي أشارت إليها، والشخصيات التي أطلت علينا في الكتاب بأفراحها وأحزانها. جانب مهم في الكتاب أنه امتلك حسًّا من التشويق، اعتمدت فيه منى أبو النصر على وفرة المعلومات، فاستطاعت أن تقدم جوانب لا نعرفها من التاريخ الإنساني، وكشفت عن سردية لأشياء كنا نظنها معروفة ومستقرة، ومن ذلك ما كتبته عن علاقة مارلين مونرو بالورود في حياتها وموتها، وكذلك ما يتعلق بعلاقة الورود بالثورات، والأهم من ذلك علاقتها بنشأة العالم، كما ورد في الأساطير القديمة، وفي سعيها لتفسير العالم توقفت منى أبو النصر عند الورود بصفتها صانعة للخير، وأيضًا صانعة للشر، ولعل سؤالها: "هل يمكن أن تقود الزهور، بكل رهافتها، إلى شر أو موت؟" يفتح الباب لمعرفة الوجه الآخر لكل شيء، ولعل ما فعله بطل رواية "العطر" لهو دليل على ما يفعله (الهوس) بالرائحة، كما أن القصة المروية عن موت الشاعر الألماني ريلكه، وكيف أن "قطفه" لوردة أدى لموته يلخّص كيف تجتمع تناقضات العالم كلها في لحظة واحدة. إذن عرفت منى أبو النصر كيف تتعامل مع الوردة بوصفها معادلًا للحياة، وقدمت ذلك بكل بحثي له بداية ونهاية ومضمون يتعلّق بالظاهر والمضمر من العلامات الثقافية، ويعيد تحليل الإشارات، خاصة أن الكتاب، كما جاء في مقدمته، استند إلى أكثر من 100 عمل فني، ما بين الأدب، والميثولوجيا، والنقد، والقصيدة، والأغنية، والسير الذاتية، والباليه، والمسرح، وبالتالي نجح الكتاب في خلق سياق جديد، وفي تقديم قراءة للعالم، وفي إثبات قدرة منى أبو النصر البحثية في التفسير والتأويل والتأمل والتوثيق.