ما زلنا مع الحديث عن حركة الخوارج، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة. «اعتزل يا عثمان أو نقتلك».. هكذا صاح المتمردون على الخليفة عثمان بن عفان، فلما قال لهم إنه لم يكن ليخلع قميصا ألبسه له الله، ضربوا حصارا على داره ومنعوا عنه الطعام والشراب. كانت هذه الخطوة بمثابة «نقلة نوعية» لمنهج حركة القراء، فمن الطعن فى كفاءة الخليفة، ثم الاجتراء على الطعن فى دينه من الأساس -رغم مكانته كصحابى كبير - ولما لم يجد هؤلاء رادعا من التصعيد، انتقلوا للخطوة التالية التى ستصبح جزءا أساسيا من منهج أى تكفيرى جاء بعد ذلك: نفذ ما أقول أو أقتلك! خطوات محسوبة بدقة، فلم يكن هؤلاء ليأخذوا الخطوة من التشكيك فى كفاءة الخليفة عثمان بن عفان وأهليته لمنصبه إلى اتهامه فى دينه إلا بعد اطمئنانهم لأنهم سيجدون «ظهيرا» لهم من القابلين للتعاطف مع دعوتهم، ولم يكونوا ليأخذوا خطوة أوسع فى رفع السلاح والتهديد بالقتل ومحاصرة دار الخليفة إلا بعد اطمئنانهم لنتائج «المظاهرة المسلحة» التى قاموا بها فى المدينة لإجبار الخليفة على تنفيذ مطالبهم.. والقاعدة معروفة: مَن أمِنَ العقاب أساء الأدب! وستكون هذه فاتحة لاجترائهم بعد ذلك على تكفير وإهدار دم كل من خالفهم.. فطالما أنهم لم يجدوا من يردعهم عن طرق هذا الباب فسيحاولون فتحه، فإن فتحوه لم يغلقوه أبدا. استمر الحصار رغم محاولات كبار الصحابة أن يُرجعوا القراء عن غيّهم، بل حاول أولئك الأخارى اقتحام الدار التى كان يحرسها الحسن والحسين ابنا على بن أبى طالب، ومحمد بن طلحة بن عبيدالله، وعبدالله بن الزبير بن العوام. وأخيرا تسلل بعضهم إلى داخل دار الخليفة - عبر تسلق دار مجاورة - واقتحموا عليه مخدعه وقتلوه.. لتكون هذه هى الواقعة الأولى من نوعها فى التاريخ الإسلامى، فحتى الخليفة السابق عمر بن الخطاب كان مغتاله فارسيا عنصريا موتورا من تسيُد العرب على الفُرس، أما اغتيال عثمان بن عفان رضى الله عنه فكان أول اغتيال «تكفيرى» لرأس الدولة أو لشخصية سياسية على الإطلاق. ولأن التطرف هو وحش ما أن ينطلق من محبسه حتى تصعب إعادته إليه، ولأن هذا الوحش قد تذوق طعم الدم واستشعر قوته، فقد كان من الطبيعى أن يصاب بالهوس بعد ذلك وأن يستمرئ هذا الشعور. يتساءل البعض: إذا كان المتمردون - حركة القراء - قد نجحوا فى اقتحام العاصمة - المدينة - واحتلالها وقتل الخليفة نفسه، فلماذا لم يفرضوا خليفة منهم وهم الذين ينفسون على قريش تصدرها المشهد؟ الإجابة هى أن القراء لم يكونوا بالحمقى، فقد كانوا يدركون «حجم» و«أبعاد» ما حققوا، فإن كانوا قد تطاولوا على مقام الخلافة وقتلوا الخليفة، إلا أن «الاحتفاظ» بالخلافة هو شىء آخر، فلا تزال قريش هى القبيلة القوية ذات البأس والسطوة، وإن ارتكبوا أية أفعال متهورة مثل الوثوب على السلطة، فإلى جانب انكشاف الحقيقة وراء متاجرتهم بالشعارات الدينية، وبالتالى انفضاض الكثير من أتباعهم عنهم، فإنهم سيكونون مهددين بثورة أهل المدينة عليهم، ولأن مصر كانت لا تزال فى أيدى الموالين للخليفة المقتول، والشام فى يد ابن عمومته معاوية بن أبى سفيان، فقد كان هذا يعنى أنهم - القراء - سيكونون محاطين بالسيوف الغاضبة من كل اتجاه. فكان لا بد من اصطياد عدة عصافير بحجر واحد: إخفاء هدفهم الحقيقى، تهدئة غضب أهل المدينة من مقتل الخليفة، وضرب أثقال قريش بعضها ببعض. كيف ذلك؟ الإجابة واضحة: بترشيحهم أحد كبار الصحابة للخلافة.. ومحاولة اتخاذه ستارا لألاعيبهم.. توجهوا لكل من طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص، رضى الله عنهم، فتعرضوا للرفض والطرد.. فلم يجدوا بدا من التوجه إلى خيارهم الأخير: على بن أبى طالب رضى الله عنه. ولماذا أصفه ب«خيارهم الأخير»؟ لأنه كان الأكثر أنصارا والأعز عشيرة - بنى هاشم - والأقدم إسلاما، والأكثر اشتغالا بالعلم، مما يعنى أنه كان - حسب رؤيتهم - التحدى الأصعب فى سعيهم لفرض السيطرة على كرسى الخلافة، وكذلك الأصعب فى خلعه عنه لو خرج عن «النَص» الذى كتبوه له. توجهوا إلى على بن أبى طالب لمبايعته بالخلافة فتمنع ثم وافق بعد إدراكه خطورة بقاء الدولة بلا خليفة، ولكن على شرط ألا تؤخذ له البيعة سرا وإنما علنا فى المسجد النبوى كما هى عادة الخلفاء من قبله، وهى خطوة ذكية لأنه - الإمام على - كان يريد لتوليه المنصب أن يكون شرعيا ولا سبيل للطعن فيه، وألا يكون للمتمردين مجال أن يدعوا فضلا فيه، فإن كانوا قد دعوه للترشح للخلافة، فإنهم لم يولوه بسيوفهم، وإنما أخذ البيعة الحرة من أهل المدينة، فشرعيته من أهل المدينة وليست من القراء. كانت موافقة الإمام على بن أبى طالب على الترشح للخلافة محل انتقاد من ابنه الحسن الذى كان قد نصح أباه عندما حوصر الخليفة عثمان أن يغادر المدينة كى لا يتهمه البعض بالضلوع فى تلك الجريمة، ونصحه عندما عرض عليه القراء الخلافة أن يرفضها كى لا يقال إنه قد بلغها بسيوفهم.. وهو نقد له وجاهته إلا أن الإمام على كانت له وجهة نظر أخرى، فقد كان يرى فى عنقه مسؤولية لم يكن ليفكر فى التخلى عنها، وكان يرى أن معركته الحقيقية هى فرض السلام لا إخلاء مسؤوليته.. لكن القراء كانت لهم معركة أخرى، فاستقرار الأمر تحت حكم خليفة واحد لم يكن ضمن أهدافهم، بل كان عليهم أن يكملوا خطتهم فى ضرب قوى قريش بعضها ببعض.. وهو أمر كانت الأحداث تسير إليه بسرعة.. وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.