لولا إصرار هذا الممثل الاستثنائي على الوجود والاستمرار فى مهنة لا يرى نفسه فى غيرها مما أتيح لى أن أعرفه عن قرب وأتمتع بصحبته القصيرة (للأسف).. ولولا إخلاصه (الحقيقي) لفنه ما أصبح (ملكا) في عين معاصريه وحتى الجيل اللاحق له.. لم أر أبدا اتفاق على محبة شخص وتقديره بلا حدود والإيمان بأنه صاحب طريقة ومدرسة والأهم مالك تأثير على كل الأجيال التي حظيت برؤيته على الشاشات مثلما رأيت في فريد شوقي منذ كانت دور عرض الدرجة الثالثة تغص بالمتفرجين المتحمسين لبطلهم لدرجة الصراخ والتصفيق عند (انتصاراته) على أشرار الشاشة (ولزماته) التي حفظوها عن ظهر قلب مثل السلام عليكو.. بلاش كده.. إلخ قبل أن يوجه ضربة الرأس (الروسية) القاتلة إلى خصمه مفتول العضلات وافر القوة. أطلقوا عليه (ملك الترسو) قبل أن تنتزع شرائح الطبقة الوسطى الأعلى اللقب وتنزع منه الترسو وتضمه إليها ملكا للجميع.. وتعلم مخرجو السينما الذى يعمل معهم فريد شوقي أن (هزيمة) فريد شوقي في أي (معركة) ليست متاحة ولا ممكنة تفاديا لجمهور حطم دار عرض غيرة على بطلهم عندما هزم في (خناقة).. إنه ممثلهم على الشاشة الذي رأوا فيه أحلامهم في (النصر) والتعويض النفسي عن قسوة حياتهم وضرورة الكفاح من أجل لقمة عيش كريمة في ظل ظروف سياسية واجتماعية متقلبة وضاغطة لا تتيح لهم مساحة كافية للتعبير عن الذات والخروج الآمن من منطقة الفقر والإهمال والتجاهل التام لوجودهم ذاته. كانوا يرون فريد شوقي مخلصهم وممثلهم حتى لو كان (وهم) الانتصارات الصغيرة محدودا ومؤقتا فهو كاف لمساعدتهم على الواقع والتشبث بأمل تجاوزه إلى الأفضل.. كان عملي في السينما معاصرا لفترة (أفول) نجومية بطل الترسو الذي دفعه ذكائه ورغبته العارمة في الاستمرار إلى (الانتقال) بسلاسة إلى أدوار (الأب) أو (الأخ الأكبر) أو (المزواج) الأخرق كبير السن كما أنه التفت أخيرا إلى طاقة (الكوميديا) التي كان الجميع يعرفها عنه في حياته الشخصية والتي لم يتح لها في رأيي الفرصة للظهور إلا فيما ندر من أعمال تلفزيونية أو مسرحية في الغالب.. بعضها مقتبس من أفلام ومسرحيات الريحاني الذي كان فريد يحمل له إعجابا بلا حدود. ولكن الانبهار الحقيقي ب (الوجه الآخر) لعبقرية هذا الممثل كانت بسبب دوره في فيلم (السقا مات) لصلاح أبو سيف.. قبل متواضعا أن يكون ممثلا مساعدا في فيلم من بطولة شاب لم يعتل بعد سلم النجومية هو عزت العلايلي وأدى دوراً شديد البساطة والتركيب معا يتراوح بين الإحساس الشعبي والعمق الفلسفي بنعومة أوصلت مناقشة قضية (الموت والحياة) إلى الجماهير العريضة العاشقة لبطلها ولرغبته في هزيمة الفناء ومعانقة الحياة حتى لو كان السبيل إليها هو معانقة الموت نفسه في لحظة لذة واستمتاع.. كانت (السخرية) من الموت والإستهانه به وسيلة أخرى أحبها (الملك) تخفيفا على جماهيره المحاصرين بالموت والخائفين منه ومن قضوا أيامهم البائسة في الهروب من حتميته القاهرة. كان دور (الملك) فى (السقا مات) أيقونة فنية خاصة في كيفية استقبال جمهوره المحب لموت بطلهم في نهاية الفيلم دون أن يشعرهم ذلك (كالمعتاد) بالغضب أو الحزن.. ولا يبقي في الذاكرة إلا خفة ظله في استقبال موته الشبقي المقترن بسعادة الاكتفاء والرضا. كان أول لقاء يجمعني بالملك في فيلم (باب شرق) من إخراج صديقي يوسف أبو سيف ومنذ اللحظة الأولى أصبحنا أصدقاء وأدركت أن الملك يحب مهنته لدرجة الولع والغرام فهو أول من يحضر لموقع التصوير قبل دوران الكاميرا بساعتين وهو من يستغرق وقتا طويلا في حفظ جمل الحوار خاصة بعد تجاوزه عامه الستين.. وكانت محبته للعمل طاغية إعترف لي بنفسه أنه كان يقبل الإشتراك في أفلام لا تعجبه كثيرا أو حتى يعتبرها (مسخرة) لأنه كان لا يطيق (البقاء في المنزل) وأنه رغم حبه لأولاده وأحفاده وجو العائله لم يكن يحس (بوجوده) إلا في موقع العمل وكانت الطريقة التي يستقبله بها كل العاملين في الفيلم تؤكد أنه يملك قلوبهم بالكامل.. رأيته يتبادل مع العمال النكت القبيحة والضحك المباح. ويفضل أن يكون (البريك) أو طعام العمل مشتركا بين كل العاملين.. ومع ظهور المخرجين الجدد لم يرفض أبدا العمل معهم رغم أنهم كانوا – بضغوط الإنتاج الصعبة – يقضون أوقاتا طويلا في التصوير تتجاوز 14 ساعة عمل في بعض الأحيان.. لم أره متبرما أو مبديا أي قدر من عدم احترام لمخرج مهما بلغ سنه ومهما كان مستواه.. وفريد كان صاحب رأي وموقف من السينما والمجتمع وشديد الوضوح، ولكنه كان أيضا لا يحب المواجهات وفي هذا تتجمع الكثير من المواقف الكوميدية التي كان الملك بطلها والتي لا يكف من عرفوه عن تذكرها مثيرة كل الضحك الصافي والمحبة العميقة.