على الرغم من الانقسام الاقليمي الذي ساد المشهد في الشرق الأوسط لعقود طويلة من الزمن، احتفظت المنطقة بالعديد من التحالفات الضيقة، والتي وإن لم تخرج بعضها عن أهداف مصلحية بحتة في إطار مخططات للتوسع من قبل بعض القوى، عبر تعزيز نفوذها وفرض هيمنتها، على الدول الأخرى، مما ساهم في تعزيز الانقسام، على المستوى الجمعي، إلا أنها لم تنجح في تغييب القضية الفلسطينية، والتي كانت الأساس الذي بنت عليه التحالفات المتناحرة توجهاتها ورسمت عليه سياساتها، في إطار فريق "ممانع"، وآخر وصفوه ب"الاعتدال"، وهو ما يعكس حضوراً مركزيا للقضية، والتي طالما مثلت بؤرة الاهتمام، حتى وإن كان إهتماما يحمل في طياته، لدى البعض، أبعادا أخرى تدور في جوهرها حول انتزاع مقعد القيادة في الشرق الأوسط، على حساب قوى أخرى، وهو ما ترك العديد من التداعيات السلبية بالطبع، سواء على الحالة الاقليمية برمتها في ظل أطماع السيطرة، التي تاقت إليها تلك القوى ذات الرؤى التوسعية، مقابل اختلالات كبيرة داخل الدول المستهدفة، والتي شهد بعضها تجنيدا لجماعات وميليشيات تدين بالولاء لهم مما أسفر عن فوضى كبيرة تأججت بعد ذلك إبان ما يسمى ب"الربيع العربي" ولكن بالرغم من تلك الحالة الاقليمية المنقسمة، احتفظت فلسطين بمركزيتها، وإن وهنت، رغم محاولات دولية لصرف الأنظار عنها خاصة خلال العقد الأول من الألفية، في ظل تداخل العديد من الأطراف الدولية، وانغماسها في حروب كلامية في بعض الأحيان تجاه قوى الممانعة، ثم امتدت إلى استخدام القوة العسكرية في أحيان أخرى، خلال غزو العراق في 2003، ثم الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، مما أعاق دولة الاحتلال عن تحقيق هدفها الأهم، وهو تصفية القضية، لتدخل إلى مرحلة "الربيع" المزعوم، بنفس الهدف، وهو زعزعة تلك الحالة المركزية التي تحظى بها فلسطين لحساب المخاوف المرتبطة بالأمن جراء احتمالات تمدد تلك الحالة الفوضوية إلى الدول الأخرى، مما ساهم في صعود سياسات "الانكفاء على الذات"، لتتوارى القضية نسبيا، لصالح معطيات الواقع ومتطلبات الأمن الداخلى، لتكون الفرصة سانحة أمام الاحتلال للتوسع وبناء مئات المستوطنات في الضفة الغربية، وهو ما يعني تآكل مزيد من الأراضي التي منحتها قرارات الشرعية الدولية للدولة الفلسطينية المنشودة. ولعل انحسار "الربيع" كان صفعة قوية، في ضوء ما ترتب عليه، ليس فقط في إطار عودة القوى الإقليمية، وعلى رأسها مصر، إلى سابق عهدها واستعادة الزخم الذي يحظى به دورها، والذي لم يغيب خلال سنوات الأزمة، وإنما أيضا في قدرتها على بناء مشروع تنموي لا يقتصر على الداخل، وإنما حمل بعدا رئيسيا في سياساتها الخارجية، لتتمكن من خلاله الانطلاق نحو إعادة هيكلة العلاقة فيما بين الدول الفاعلة في المنطقة، عبر حزمة من المصالحات ومن ثم الشراكات، لتعيد الزخم مجددا إلى القضية المركزية، ولكن في إطار مختلف عما كانت عليه الظروف قبل "الربيع"، بعيدا عن سياسة المحاور التي ساهمت بصورة طغيان الدور الدولي في القضية الأم، على حساب الدور الاقليمي، وهو الأمر الذي يفسر اندفاع الدولة العبرية إلى توسيع عدوانها على غزة منذ أكتوبر 2023، ليتجاوز القطاع نحو مناطق أخرى بالإقليم، في ظل رغبة عارمة في قمع الحالة الجديدة، وإحياء حالة "الانكفاء على الذات"، لتمرير خطتها التي تجاوزت هذه المرة تجريد فلسطين من جغرافيتها نحو حرمانها من مواطنيها عبر دعوات التهجير. المفارقة المثيرة للانتباه في هذا الإطار، تتجلى في وجود قضية مركزية، وضعت أساسا للتوجهات التي تتبناها قوى الاقليم، حتى وإن كانت تحمل أهدافا توسعية، مما ساهم في البناء عليها، خلال الإجماع في مواقف دول المنطقة على ثوابت فلسطين في العديد من المحافل، لتصبح منطلقا اتبعته القوى الدولية الأخرى في بناء مواقفها، ليتحول بعضها نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، على غرار إسبانيا والنرويج وسلوفينيا وغيرهم، في انتصار دبلوماسي مهم على حكومة بنيامين نتنياهو. وهنا وجد الاقليم ضالته، وفي القلب منه المنطقة العربية، في أن يكون الفاعل الرئيسي في قضيته المركزية، من خلال الشراكات التي اعتمدت نهجا تنمويا، يحقق مصالحها، وبعيدا عن التحالفات القائمة في الاساس على سياسات الاستقطاب التي من شأنها تراجع دور المنطقة. الموقف الاقليمي من العدوان على غزة، وما أسفر عنه من مكاسب غير مسبوقة على الصعيد الدولي، دفع القوى الكبرى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، بعد عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إلى استعادة زمام المبادرة فيما يتعلق بالقضية، من بوابة إعادة إعمار غزة، عبر الدعوة إلى تهجير سكان القطاع، وبالتالي تحقيق ما فشل فيه الاحتلال عبر آلياته الخشنة، باستخدام أداة ناعمة، تحمل وجها إنسانيا، إلا أن الإقليم تصدى عمليا بخطة عربية حظت بإجماع إقليمي، وترحيب دولي منقطع النظير، لتكون على مائدة الحوار مع واشنطن، مما يعكس التحول نحو دور أكثر فاعلية بعد عقود من القيام بدور المتلقي. ولعل تقديم الخطة في إطار عربي، يعكس حقيقة التحول الكبير في الكيفية التي باتت تدار بها القضية، فلم تتقدم بها مصر، باعتبارها صاحبة المقترح، على نحو فردي، وإنما آثرت إضفاء غطاء جمعي عليها، ليس فقط لإضفاء المزيد الشرعية على رؤيتها، وإنما لتعزيز البعد المركزي للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب الأولى، بينما تمثل مشتركاً إقليمياً في ضوء ارتباطها الوثيق باستقرار الشرق الأوسط في صورته الجمعية، في حين أن أبعاد الخطة نفسها تمثل جوهر الرؤية التنموية التي تمثل منطلقا للشراكات والمصالحات التي تمت خلال السنوات الماضية، وهو ما يمثل انعكاسا للرؤية المصرية القائمة على تقويض مفهوم القيادة المنفردة، نحو العمل الجماعي القائم على شمولية القيادة الإقليمية للقضايا المرتبطة به. وهنا يمكننا القول بأن وجود القضية المركزية من شأنه تحقيق توافقات إقليمية على نطاق أوسع حتى وإن تأخرت على خلفية الخلافات بين دول الاقليم وطموحاتهم، حيث أنها تشكل في لحظة فارقة منطلقا للتعاون يمكن البناء عليه سواء فيما يتعلق بها مباشرة أو تجاورها فيما يحقق المصلحة المشتركة للشعوب سواء في إطار تنموي أو أمني أو ما يتعلق بمواجهة كافة التهديدات التي قد تطرأ على مناطقهم الجغرافية.