فى خضم ما يدور فى أروقة الحياة، ربما ننسى بعض القضايا التى هى جزء أصيل من تكوين المجتمع، هنا يأتى دور الفن، الدراما، السينما، المسرح، وحتى الأغنية؛ لتعيد إلى أذهاننا ما سقط، ربما سهوًا وربما فى زحمة الحياة، وبين أروقة وجنبات العقل المزدحم بالأفكار والمسئوليات والترتيبات، التى لا حصر لها ولا نهاية. هذا ما فعله "ولاد الشمس".. قصة درامية تفيض بالمشاعر، لم تأتِ من فراغ، فحتى المطلع من بعيد سيفطن بغير قليل من الجهد، بأنها وليدة دراسة متأنية لما يدور فى هذا العالم، وما يجول فى خاطر أبطاله، فى ظواهرهم وبواطنهم، فى ملامحهم البريئة وإن تلوثت بفعل الزمن، وندبات الأسئلة الكثيرة التى تدور فى أذهانهم ولا تجد إجابة. كيف تصنع عملًا وترسم شخصياته وأبعادها المختلفة-وأخص منه النفسية- بحرافية شديد، تجمع الخيوط وتتشابك؛ لتنسج معًا قصة تقود إلى فيض من المشاعر، الخوف والحزن والترقب والسعادة بل والقلق، حتى النهاية لم تأتِ عجولة مستهلكة، وخجولة تسير على عكاز بفعل ما تشعر به من عجز وضعف، ولكنها جاءت قوية مانحة لأصحابها الحقيقة التى يبحثون عنها، ومنحت المشاهدين وجبة دسمة فى 15 حلقة، دون إطالة واستنزاف واسترسال غير مفهوم. الحقيقة الكبرى فى "ولاد الشمس" ظهرت فى ملامح أبطال العمل منذ الحلقة الأولي، وهى أنهم "أخوة"، أما الحقائق الصغرى فتكشفت تدريجيًا مع توالى الأحداث، وقادت فى نهاية المطاف، إلى ذات الحقيقة الكبرى، تلك المعادلة لم تكن لتنجح بهذا الشكل، لو لم يبرع كل صاحب صنعة فى أداء صنعته، بداية من الكتابة مرورًا بكل شيء وصولًا للأداء التمثيلى الذى جعل المشاهدين جزء من العمل. ماذا فعل "مالك"؟.. استطاع أن يخرج من كل العباءات التى ارتداها؛ ليرتدى عباءة جديدة، لم تكن لتليق عليه لولا أنه عاش بداخلها، كما كان يعيش كبار الفن داخل الشخصيات فى فترات التحضير، بكل بساطة، هو انحنى للدور احترامًا، فانحنت له مفاتيح الشخصية، فتملك منها بكل أبعادها النفسية والاجتماعية والمادية، لم يترك شيئًا للصدفة، حتى بنيانه الجسمانى طوعه بكل براعة ليخدم ما يقدمه. الشر يمكن أن يقدم على طبق من ذهب أو فضة ونحاس، ولكنه لن يكون صادقًا وعابرًا إلى نفوس المشاهدين إلا إذا كان منسوجًا نسجًا نفسيًا عميقًا، هذا النسج لا يحتاج لأن تكون الشخصية ذو قرون طويلة ممتدة للسماء وكاحلة السواد، أو أعين حمراء دامية، وصوت غليظ أجش، ولكن يكفيه أن يكون هادئًا تحركه أهدافه الدنيئة، التى يخدمها بالحيلة والمكر والخداع، هذا ما فعله "ماجد" وأبرزه بكل انسيابية الفنان القدير محمود حميدة، الذى أشعل ذاكرتى وأعاد إليها ما قدمه "أنطونى هوبكنز" فى فيلم " The Silence Of The Lambs"، نفس الهدوء المعتاد وهو ينادى على "جودى فوستر" بملامح ثابته "Hello Claric". هكذا برع "طه دسوقي" (مفتاح) وخرج من إطار إلى إطار، ليقدم لنا وجبة درامية دسمة، وأداء أقل ما يقال عنه أنه السهل الممتنع، ولم يكن بعيدًا عنه "مينا أبو الدهب" (عبيد) الذى أجرى تحولات الشخصية صاحبة الصراعات الداخلية العميقة بكل بساطة، دون أن يشعر المشاهد بخلل فى هذه التحولات، وهذا أمر صعب، أن تتحول خلال 15 حلقة من قالب إلى قالب، فى حقيقة الأمر هو مولد نجم صنعت نجوميته شخصية صعبة، استطاع أن يقودها بكل براعة إلى حيث أراد. لا يوجد فى العمل أدوار صغيرة، حتى أطفال الدار، كانوا بارعين ومنسوجين نسجًا محكمًا دقيقًا. "سيد" سائق ال"توك توك"، كيف أدار شابًا صغيرًا مشهد فى غاية الروعة، وأخرجه للنور بهذه الطريقة، كيف تفاعل مع مشهد تتزوج فيه والدته من صديقه "الملاكم"، ومطلوب منه أن يشهد على زواجها بالصدفة، "إبرام سعيد" ولد نجمًا سحب الشخصية إلى البيئة الشعبية البسيطة وإلى أوساط السائقين من عمره، دون أن يتحذلق. ماذا فعل بنا "ولاد الشمس"؟.. الفن يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية، وهذا ما فعلوه، لقد تسربوا إلى داخلنا أشعلوا النيران فى مشاعرنا، وجعلونا نستشعر ونتفاعل مع ما ظننا أننا لن نراه مجددًا على الشاشة، طرحوا آلامهم المكتومة، وفرطوا عقد القضية وتركوا حباته تسبح فى بحر الغمام.