كثيرة هى التهديدات التى دأبت على استهداف الدولة المصرية فى السنوات الأخيرة، لعل أحدثها هو تصريحات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، التى اقترح فيها أن تستقبل مصر والأردن الفلسطينيين من سكان قطاع غزة "لإقامة مؤقتة أو دائمة"، لحين إعادة إعمار القطاع الذى دمرته تمامًا آلة الحرب الإسرائيلية. لا نناقش هنا خطورة تلك التصريحات، والرفض المصرى المطلق والفورى لها، والتحذير من تبعاتها الكارثية على تصفية القضية الفلسطينية، لكننا ننبه إلى أهمية مواجهة سيل الشائعات التى بدأت تفيض على صفحات "السوشيال ميديا"، وتشكك فى حزم وحسم الموقف المصرى الوطنى، وتدعى كذبًا أن "القاهرة" سترضخ فى النهاية للضغوط الأمريكية. وهى شائعات تأتى فى سياق متصل منذ سنوات، يستهدف زعزعة استقرار الدولة المصرية، وازدادت شراستها طوال العام الفائت (2024)، والذى يمكن تسميته ب"عام الأكاذيب"، إذ واجهت فيه مصر هجمات غير مسبوقة من الشائعات الكاذبة؛ والأخبار الزائفة؛ والمعلومات المضللة، خصوصًا وقد بات من السهل إنشاء العديد من الفيديوهات والصور غير الحقيقية، عبر استخدام تقنيات التعلم الآلى والذكاء الاصطناعى الحديثة. وهى هجمات معروف أغراضها وتوجهاتها وأهدافها فى ضرب استقرار الدولة، والنيل من مؤسساتها، وبث الفتنة ما بين تلك المؤسسات وقطاعات الشعب المختلفة، وصولًا لتحقيق هدف "إفشال الدولة" الذى يعد الهدف الأساس فى أى مخطط من مخططات حروب الجيلين: الرابع والخامس. الأرقام تقول إنه فى خلال العام المنصرم فقط، تعرضت مصر إلى نحو (170) شائعة أو ادعاءً مضللا، نُشرت على منصات التواصل الاجتماعى المختلفة، طالت المجالات السياسية والاجتماعية والعسكرية (بالترتيب)؛ وبعدهم أتى المجال الاقتصادي؛ ثم الرياضي. وهو ما أظهرته أداة موقع البحث العالمى (جوجل) لتدقيق المعلومات "Google Fact Check"، ورصده بالتفصيل مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء، الجهة الرسمية المعنية بالرد على سيل الشائعات التى تستهدف البلاد. هذا العدد الهائل من الاستهداف بالشائعات الممنهجة والأخبار المضللة، فى خلال عام واحد، يكشف حجم ما يتهدد مصر من "مؤامرات خبيثة"، تقف وراءها فى الظلام قوى وجماعات شريرة، تدعمها أجهزة استخباراتية تابعة لدول معادية، إقليميًا ودوليًا، تسعى بشدة لإسقاط الدولة المصرية ومؤسساتها فى مستنقع من الأكاذيب الملفقة بعناية؛ حيث يتم صوغها لتبدو واقعية للجمهور، من خلال تغيير محتوى المادة الإعلامية، عبر التلاعب بالألفاظ والجمل والعبارات، للتأثير على الرأى العام وبث الفرقة والانقسام فى المجتمع، مستخدمين فى ذلك أساليب تكنولوجية حديثة، فى عملية يُطلق عليها "Deepfake"، أى التزييف العميق، تهدف إلى تضليل الرأى العام؛ وخلق وعى زائف بين المواطنين، سعيًا لإحداث بلبلة ونشر الفوضى وزعزعة الاستقرار، وفق "هدف نهائي" تتوق إليه تلك الجماعات والأجهزة، ألا وهو هدم الدولة المصرية. وربما يجادل البعض، محاولًا التقليل من شأن تأثير الشائعات على الشعوب والمجتمعات، وإنكار إمكانية سقوط أنظمة وانهيار دول بسبب الشائعات والحرب النفسية التى يشنها "الأعداء المحتملون"، وعلى هؤلاء نرد بالقول إن عملية صنع الشائعات، واستخدامها لتحقيق أهداف الحرب النفسية؛ معروفة منذ فجر التاريخ الإنسانى، لكنها ازدهرت مع الحرب العالمية، ثم تطورت بشكل مخيف فى السنوات الماضية، خصوصًا مع ظهور وسائل ووسائط التواصل الاجتماعى، التى أصبح الكثيرون يعتمدون عليها كمصدر للحصول على المعلومات والأخبار، وربما التورط فى إعادة نشرها وترويجها بدون التثبت من مدى صحتها أو صدقيتها. ويذهب الخبراء المختصون إلى أن "الشائعات" تعد أهم الوسائل التى تُستخدم لتحقيق أهداف واستراتيجيات "الحرب النفسية"، والتى تهدف إلى "إلحاق الهزيمة النفسية بالعدو؛ وتدمير معنوياته". وأن توظيف الشائعات فى الحروب "بات سلاحًا لا يمكن لدولة ما أن تتجاهله"، إذ أنه يمكن أن يؤدى إلى "تفكيك الجيوش، وإثارة الاضطراب والفوضى داخلها، بل ودفعها إلى الاستسلام". ويلفت الخبراء النظر أيضًا إلى أن استخدام الشائعات لا يقتصر على الجيوش خلال الحروب، بل يتعداها إلى المجتمع أو البلد المستهدف بكامله، عبر عمليات طويلة ومعقدة تؤدى فى النهاية إلى إثارة البلبلة، وزيادة الاستقطاب والانقسام داخل المجتمع، وإضعاف الروح المعنوية للشعوب، وتفكيك مؤسسات الدولة، وربما إشعال الحروب الأهلية بين مكوناتها. ولكى تكتسب "الشائعة" قدرًا من المصداقية بين الناس، بما يجعلهم متقبلين -بل وناقلين- لها، هناك "مواصفات محددة" لمضمون الشائعات المؤثرة. ولدينا دراسة مهمة أعدتها (عام 1990) الإدارة المختصة بالحرب النفسية فى وزارة الدفاع الأمريكية، وهى إدارة يوجد مثيلها فى وزارات الدفاع فى العديد من دول العالم؛ وتضم خبراء فى "صنع الشائعات" وترويجها، وهذه الدراسة تحدد خصائص بعينها لما تسميه "الشائعة الناجحة"، حتى تكتسب قدرًا من المصداقية لدى الجمهور، منها: أن تكون "بسيطة وغير معقدة"؛ تتضمن معلومة محددة؛ وليس فيها الكثير من التفاصيل؛ ليكون من السهل على الجمهور المستهدَف تذكرها، ومن ثم إمكانية ترويجها عن طريق الاتصال الشخصي. كما يجب أن تتوافق "الشائعة" مع مصالح الجمهور؛ وتلبى توقعاته؛ وتشبع احتياجاته؛ وتراعى الظروف التى يمر بها، حتى تنجح فى استغلال وإثارة مشاعره وعواطفه. ومن الأفضل -وفق الدراسة- أن تُنسب الشائعة إلى "مصدر موثوق به"، ويتم تجنب المبالغة فى صياغتها، كما يجب أن تتناسب مع "السوابق التاريخية"؛ أى مألوفة وغير مستبعد حدوثها. هذه الحقائق تُنبهنا إلى خطورة "حرب الشائعات" التى تستهدف وطننا مصر، خصوصًا مع أزمة تصريحات الرئيس الأمريكى الأخيرة، وتفرض علينا مواجهتها والتصدى لها بحسم بالغ، لكن فى إطار علمى ومنهجي؛ يتناسب مع عصر الذكاء الاصطناعى وتطبيقات التكنولوجيا فائقة التطور، مع ابتكار وسائل "غير تقليدية" تُقنع جيل ما بعد الألفية (الجيل زد)، وهم الجيل المُستهدف من "حروب الشائعات".