إن التاريخ ليس إلا سجلًا ضخمًا تتصارع فيه القوى وتتبدل فيه الأقدار، ولكن ما نعيشه اليوم أشبه بمسرحية عبثية تكتب فصولها على يد رجل يرى السياسة حلبة صراع، والقرارات أداة للربح والخسارة، كأنها صفقة عقارية لا تبعات لها سوى أرقام تتراقص على شاشات البورصة. إن دونالد ترامب، الذي أطلَّ على العالم بوعود جعل أمريكا عظيمة، لم يكن سوى فاعلٍ هائل في إضعاف نظام عالمي قائم منذ عقود. يصول ويجول بين السياسات كمن يلعب بالنار، دون أن يدرك أن الشرر المتطاير لا يصيب خصومه وحدهم، بل يهدد بحرق الهشيم الممتد تحت أقدام الجميع والذي ستطول نيرانه أمريكا قبل ان تطول الآخرين. تهجير الفلسطينيين: مشروع التصفية الكبرى ليست القضية الفلسطينية مجرد عنوان في نشرات الأخبار، بل هي جرح مفتوح في قلب العالم العربي. ولكن ترامب، الذي يرى المشهد من برجه العاجي، قرر أن يختزلها في صفقات واتفاقيات ترسمها يده، وكأن مصير الملايين يمكن أن يحدد بضغطة قلم. منذ قراره بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو يسير بخطى ثابتة نحو محو أي فرصة لحل عادل، حتى وصل إلى ما يتردد اليوم عن مخططات لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، كأنهم أرقام زائدة يجب تصريفها بعيدًا عن أعين العالم. لم يكن الأمر مفاجئًا، فقد سبقه بقطع التمويل عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، ليضع ملايين الفلسطينيين أمام خيارين لا ثالث لهما: الفقر أو الهجرة. إنه منهج صارخ في محو الهوية الوطنية، وتجفيف الأرض تحت أقدام أصحابها حتى يصبحوا كالأشجار المقتلعة، تتلاعب بهم الرياح حيث تشاء. ------- إغلاق أبواب الفرص: من يدفع الثمن؟ لم يتوقف ترامب عند حدود العبث بمصائر الشعوب، بل امتدت قراراته إلى الداخل الأمريكي نفسه، حينما قرر وقف عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). هذه الوكالة لم تكن مجرد مؤسسة بيروقراطية، بل كانت تمثل شريان حياة لملايين المستفيدين من برامجها، سواء داخل الولاياتالمتحدة أو في دول عديدة حول العالم. الطلبة الحاصلون على منح، الموظفون الذين كرسوا حياتهم لخدمة التنمية، المجتمعات التي استفادت من المشروعات التنموية – جميعهم وجدوا أنفسهم فجأة أمام أبواب موصدة. إن القرار لم يكن مجرد مسألة إدارية، بل رسالة واضحة بأن المصالح الضيقة تطغى على كل ما عداها، حتى لو كان الثمن مستقبل أجيال كاملة. ----- الاقتصاد العالمي تحت التهديد: أما على الساحة الاقتصادية، فإن ترامب لا يرى التجارة سوى ساحة معركة، حيث المنتصر هو من يفرض إرادته على الجميع. فرض تعريفات جمركية جديدة، هدد التحالفات الاقتصادية، وأعاد تشكيل العلاقات التجارية بمنطق الضغط والابتزاز. يرى أن الاقتصاد العالمي مجرد طاولة مقامرة، حيث يجب أن يربح هو ليخسر الجميع. لم يدرك أن الاقتصاد ليس مباراة صفرية، وأن تهديد التحالفات الاقتصادية سيؤدي إلى زعزعة استقرار الأسواق، وخلق حالة من عدم اليقين تضر حتى بمصالح بلاده. إن التصعيد التجاري مع الصين، والضغوط على الشركاء التقليديين، ليست سوى خطوات تقود إلى انهيار أسس النظام الاقتصادي العالمي، حيث لم يعد هناك يقينٌ في العقود، ولا ثقة في الاتفاقيات. عالم بلا توازن هكذا، نجد أنفسنا أمام مشهد يعج بالفوضى، حيث القرارات تتخذ بمنطق رجل الأعمال الذي لا يرى سوى الأرباح والخسائر المباشرة. لم يعد هناك اعتبار للتحالفات التي قامت بعد الحرب العالمية، ولا للتوازنات التي حفظت استقرار العالم لعقود. إن السياسات التي يتبناها ترامب لا تهدد أعداءه وحدهم، بل تمس حتى أقرب حلفائه. وكأن العالم كله قد تحول إلى رقعة شطرنج، حيث يحرك القطع كيفما شاء، غير مدرك أن لعبة القوة قد تنقلب في لحظة، وحينها لن يكون هناك من ينقذه من الفوضى التي زرعها بيديه. يبقى السؤال، إلى متى سيظل العالم رهينة هذه السياسة العشوائية؟ وإلى أي مدى يمكن أن يتحمل المجتمع الدولي آثار هذه القرارات؟ ربما تكون الإجابة معلقة في أفق الغد، ولكن المؤكد أن التاريخ يسجل، والشعوب لا تنسى. ----- سياسات ترامب ضد اللاجئين والمهاجرين: أبواب موصدة في وجه الإنسانية منذ اللحظة الأولى التي تولى فيها ترامب السلطة، أعلن عداءه الصريح لكل من لا ينتمي إلى صورته الضيقة عن أمريكا. اتخذ قرارات متتالية لم تترك مجالًا للشك في توجهاته المعادية للاجئين والمهاجرين، بدءًا من حظر دخول مواطني دول إسلامية، إلى تشديد قوانين الهجرة، واحتجاز الأطفال في مراكز اعتقال تفصلهم عن أسرهم. لم يكن ذلك مجرد سياسة، بل حملة ممنهجة تستهدف تفكيك النسيج الأمريكي المتنوع الذي قام عليه البلد منذ نشأته. اللاجئون الذين فروا من ويلات الحروب بحثًا عن الأمان، والمهاجرون الذين سعوا إلى تحقيق أحلامهم بعرق جبينهم، وجدوا أنفسهم في مواجهة جدران جديدة من العنصرية والتمييز. حتى برامج اللجوء التي كانت تمثل بارقة أمل لمن فقدوا أوطانهم، تم تقليصها إلى الحد الأدنى، ليغلق ترامب بذلك أبواب أمريكا في وجه أكثر الفئات ضعفًا في العالم. لم يكن الأمر مجرد سياسة داخلية، بل رسالة واضحة لكل من يؤمن بقيم العدالة والإنسانية: أمريكا لم تعد كما كانت، بل تحولت في عهد ترامب إلى حصن منغلق، حيث لا مكان إلا لمن يتوافق مع رؤيته الضيقة. وبينما يتغنى بالديمقراطية، فإنه يسحق أحلام الآلاف ممن لا يملكون سوى أمل في حياة كريمة، ليبقى العالم أمام مشهد قاسٍ تتلاشى فيه المبادئ أمام النزعات العنصرية والمصالح السياسية. --- مصر.. خطٌ أحمر لا يُمس لطالما كانت مصر عبر التاريخ حصنًا منيعًا ضد كل من تسول له نفسه العبث بأمنها أو التدخل في شؤونها. لم تعرف يومًا الخضوع، ولم تسمح لأحد بأن يملي عليها قراراتها أو يرسم لها مستقبلها. واليوم، في وجه المقامر الذي يحاول فرض إرادته على العالم، يقف الشعب المصري موقفًا ثابتًا لا يقبل المساس بسيادته، رافضًا أي مخططات تهدف إلى زعزعة استقراره أو العبث بأمنه القومي. إن المصريين، الذين خاضوا معارك الاستقلال بأرواحهم، يدركون جيدًا أن التنمية الحقيقية لا تأتي من الإملاءات الخارجية، بل من العمل الجاد والتضحيات الصادقة. لم ولن يكونوا رهائن لضغوط تُمارس باسم المصالح. وإذا كان العالم قد شهد على قوة هذا الشعب في مواجهة الأزمات، فإن أي محاولة للمساس بأمنه أو فرض إرادة خارجية عليه ستجد أمامها إرادة لا تلين، ورجالًا لا يهابون التحديات، مستعدين لبناء وطنهم بسواعدهم، والدفاع عنه بدمائهم إذا لزم الأمر.