بالصور.. محافظ المنوفية يستقبل رئيس المجلس المصري للشئون الخارجية    توريد 30 ألف طن قمح للشون والصوامع بالقليوبية    انخفاض طفيف في أسعار الدواجن وتوقعات للسوق خلال الفترة المقبلة    "المؤتمر": كلمة السيسي بافتتاح مركز الحوسبة السحابية رسمت صورة متكاملة للمستقبل الرقمي    «المشاط» تؤكد ضرورة تحفيز التعاون الإقليمي لتحقيق الانتقال العادل بمجال الطاقة المتجددة    وزير الخارجية القطري: يجب وقف إطلاق النار في غزة فورا    إعلام إسرائيلي: صفارات الإنذار تدوي في عدد من المستوطنات الشمالية    الصحف الأوروبية صباح اليوم.. اكسبريس: مرشح جديد لتدريب اليونايتد وديلي ميل تكشف كواليس جديدة بين صلاح وكلوب    الخطيب غاضب من السولية والشحات" ويطالب خالد بيبو بأمر عاجل    بيع الكيف وسط الشارع.. حبس المتهمين بحيازة كمية كبيرة من الهيروين في الشروق    احالة 373 محضرًا حررتها الرقابة على المخابز والأسواق للنيابة العامة بالدقهلية    ضبط شخصين لقيامهما بإضرام النيران عمدا بإحدى الصيدليات بالقاهرة    قنوات ART تنعي المخرج والسيناريست عصام الشماع: أعماله ستظل خالدة في وجدان المشاهد العربي    مدبولي يؤكد ضرورة بذل أقصى الجهود لتفادي أي اعتداء على رفح الفلسطينية    وزير الإسكان يتابع مشروعات الخدمات ورفع الكفاءة والتطوير بالمدن الجديدة    مجموعة طلعت مصطفى تقرر شراء 10 ملايين أسهم خزينة    اتحاد الكرة يكشف موقفه من معاقبة "شلبي وعبد المنعم" بعد احتفالاتهم المسئية (خاص)    رمضان السيد: الأهلي قادر على التتويج بدوري أبطال إفريقيا.. وهؤلاء اللاعبين يستحقوا الإشادة    مجموعة الصعود.. بتروجت يستضيف وادي دجلة بدوري المحترفين    اتحاد الكرة: قررنا دفع الشرط الجزائي لفيتوريا.. والشيبي طلبه مرفوض    طلب من حسام حسن.. عامر حسين يكشف موعد توقف الدوري المصري    البورصة المصرية.. «EGX30» يقفز 2.90% و«السوقي» يربح 28 مليار جنيه في مستهل التعاملات    حرس شرف وسلام جمهوري.. مراسم استقبال رسمية لرئيس البوسنة والهرسك في قصر الاتحادية    خسائر جديدة في عيار 21 الآن.. تراجع سعر الذهب اليوم الإثنين 29-4-2024 محليًا وعالميًا    «صحة قنا»: تعافي جميع مصابي الاختناق بعد تحسن حالتهم    مدبولي: على المجتمع الدولي بذل كل الجهود لمنع أي هجوم على رفح    احتفاء بفوز باسم خندقجي بالبوكر: فلسطين ملء العين والسماء دائما    تعرف على الجناح المصري في معرض أبو ظبي للكتاب    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    ضربة الشمس في الصيف.. تعرف على أعراضها وطرق الوقاية منها    مصرع عامل وإصابة آخرين في انهيار جدار بسوهاج    جامعة عين شمس تطلق حملة "صحتك تهمنا"    الأعاصير تتسبب في مقتل أربعة أشخاص بولاية أوكلاهوما الأمريكية    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    رئيس كوريا الجنوبية يعتزم لقاء زعيم المعارضة بعد خسارة الانتخابات    من هي هدى الناظر زوجة مصطفى شعبان؟.. جندي مجهول في حياة عمرو دياب لمدة 11 سنة    لأول مرة.. تدشين سينما المكفوفين في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير    "عشماوي": الإطار الوطني للمؤهلات يسهم في الاعتراف بخريجي المؤسسات التعليمية    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    انطلاق اختبارات المواد غير المضافة للمجموع لصفوف النقل بالقاهرة    ختام فعاليات مبادرة «عيون أطفالنا مستقبلنا» في مدارس الغربية    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    مفاوضات الاستعداد للجوائح العالمية تدخل المرحلة الأخيرة    اليوم.. مجلس الشيوخ يستأنف عقد جلسته العامة    البحوث الفلكية: غرة شهر ذي القعدة فلكيًا الخميس 9 مايو    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    علييف يبلغ بلينكن ببدء عملية ترسيم الحدود بين أذربيجان وأرمينيا    مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    سامي مغاوري يكشف سبب استمراره في الفن 50 عامًا    أول رد رسمي من الزمالك على تصرف مصطفي شلبي أمام دريمز    "السكر والكلى".. من هم المرضى الأكثر عرضة للإصابة بالجلطات؟    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    السفيه يواصل الهذيان :بلاش كليات تجارة وآداب وحقوق.. ومغردون : ترهات السيسي كلام مصاطب لا تصدر عن رئيس    بالصور.. الوادي الجديد تستقبل 120 طالبًا وطالبة من كلية آداب جامعة حلوان    مصرع شاب في انقلاب سيارة نقل بالوادي الجديد    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    ربان الكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مصر يحتفل بعيد الشعانين ورتبة الناهيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بغداد أول مرة
نشر في اليوم السابع يوم 19 - 02 - 2024

وصلت مطار القاهرة متأخرة، وهذا جديد تمامًا، فالتأخير ليس من عاداتي، لم أكن السبب ولم يكن كذلك ترددي في الخروج، هذا التردد الذي يأكل نصف الوقت أو أغلبه، لكنه كان الطريق المزدحم ثم طابور الدخول الطويل الذي استغرق نحو ساعة كاملة، كما استغرق حلمي لزيارة بغداد سنوات توازي أغلب عمري.
ظللت أُردد منذ صباي المثل الشهير:" القاهرة تكتب وبيروت تنشر وبغداد والخرطوم تقرأ"، وظللت أيضًا أحلم أن أعيش في مدينتين: بيروت وبغداد، تحقق جزء من الحلم حين نمت علاقتي بالعاصمة اللبنانية وترسخت بعلاقة متأنية وطويلة المدى.
لم أعرف سببًا واحدًا لتأخر زيارتي لبغداد، فقد تعددت الأسباب والنتيجة واحدة.. وأخيرًا ذهبت إلى بغداد بعد انتظار طويل ورحلة شاءت الظروف أن تكون طويلة ليتوهج خيالي أكثر بصورة بغداد التي تسكنني، وليصبح مشوار " القاهرة- بغداد" كما عنوان الفيلم المشترك بين مصر والعراق، أخرجه أحمد بدرخان في العام 1947، فرصة لتجميع شتات نفسي قبل لقاء العاصمة العراقية التي سكنت وجداني وعشت أوجاعها الكثيرة عن بُعد.
زرت بغداد عبر بوابة السينما، ضيفة الدورة الأولى لمهرجان بغداد السينمائي.. الدورة التي جمعت الشامي والمغربي واليمني والسوداني والخليجي و.. المصري على أرضية واحدة هي السينما.
محظوظة لأنني كنت جزءً من حضور مصري كبير ومشاركة فيلمية متعددة من بينها الفيلم القصير (شارع شامبيليون) عن نص من تأليفي ضمن مجموعتي القصصية "دومينو"، ليكتمل حضوري إلى بغداد بقبس من نورها.
شاءت الصدفة أن ترتبط زيارتي الأولى للعراق بيوم ممطر جميل يليق بأمنياتي صوب بغداد، على حسب المثل المصري الشعبي :" الخير على قدوم الواردين"، على قدر حماسي لبغداد ومهرجانها الذي تمنيته فرصة للتأمل والنقاش الجدي حول السينما، فإنني كنت معتزة بطريقة العراقيين في التغلب على ما عاشوه من حصار وحرب وقتل، بفعاليات أدبية وفنية تعيدهم إلى الحياة الثقافية بحماسة وهِمَّة، كذلك كنت ممتنة للتحايا والمفردات العراقية الخاصة، هذه الخصوصية التي عبر عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش حين قال: "الشِّعْرَ يُولد في العراق فكُنْ عراقيًا لتصبح شاعرًا يا صاحبي!"، وهذا ليس بكثير على بلد أبو نواس، المتنبي، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، محمد مهدي الجواهري، سعدي يوسف و.. غيرهم.
حاضرنا ماضينا..
أمضيت سنوات كثيرة أستمع وأقرأ حكايات بغداد وأقرأ أشعارها بين الشجن والمباهاة، انفعلت بها كمدينة تتسع جغرافيتها لكل الأساطير وغضبت بحصارها واحتلالها وضحاياها، بهذه الأحاسيس تجولت في شوارعها تغمرني هذه الأحاسيس المُلْتَبِسة من الشجن والأمل والتطلع صوب حياة جديدة، بينما الشعر لا يفارقني، إذ يتردد صوت محمود درويش مجددًا في أذني:
لا بد من شاعر يتساءل :
بغداد : كم مرة تخذلين الأساطير؟ كم
مرة تصنعين الثماثيل للغد؟ كم مرة
تطلبين الزواج من المستحيل؟
يخبرني صديقي المخرج العراقي المقيم في فرنسا، ليث عبد الأمير، أن بغداد كانت أجمل وأن ثمة تغيير وحشي قد حدث فيها، أطوف معه ميادينها وشوارعها: أبو نواس، المتنبي، الرشيد، السعدون، إلى حيفا وفلسطين، أشاهد تماثيلًا من عصور مختلفة في مدينة التماثيل والنُصب والجداريات، أتوقف عند ساعة القشلة البغدادية التراثية وبيت الحكمة وبيت هارون الرشيد ثم مكتبات المتنبي ومنها إلى مبان معاصرة و"مولات" تجارية، ليحملني هذا التوازي بين القديم والحديث إلى أرض الواقع الذي يبرهنه سائق التاكسي بجملة مكثفة:"حاضرنا ماضينا"، كان يقصد أنهم يعيشون على إرث الجمال الذي تركه الماضي، لكنني شعرت بالجروح الممتدة من الماضي إلى الحاضر، ومع ذلك فإن هذه الجروح مهما كانت درجة عمقها لم تتسبب في موت المدينة، فالبطل لا يموت، وبغداد بطل الحكايات والوقائع، أبناؤها مثل فرسان الساموراي، يمضون دائمًا مع الريح في ترحال لا يعرف الراحة والاستقرار، بينما تبقى أرضهم ثابتة، مؤكدة البعد الأسطوري فيها الذي ينطلق من تلك النقطة الغامضة التي تستهل بها روايات عن أولئك الأبطال الذين يملأون الحياة بحضورهم المتميز، ثم تأتي اللحظة العجيبة التي يُصارع فيها البطل وحشًا لا يُقهر، إنه الموت الذي أراد جلجامش أن يقهره عبر تسلط غير إنساني، وعندما رأى جثة صديقه انكيدو أصابته الدهشة التي منحته الخلود عبر ممارسته لسلوك التحضر الذي يشبه الفن الآن، فعندما خاف انكيدو من الهبوط إلى الغابة قال له جلجامش: لا تتحدث يا صديقي كإنسان ضعيف، إنس الموت، من يمض في المقدمة يحفظ صاحبه، يحم صديقه، فإذا سقطا حفرا لنفسيهما اسمًا خالدًا.. وبغداد على هذا الأساس تهيأت لتكون خالدة، فيها الدم كثير والفن أكثر.
ألف ليلة وليلة...
قد تكون جدارية "نصب الحرية" في ساحة التحرير للنحات جواد سليم، الأب الروحي للنحت العراقي المعاصر، والذي رحل شابًا ولم يشهد افتتاحها، هي الأشهر في بغداد وربما الأكثر شعبية لأنها تحكي عن سردية نضالية عراقية، تصوّر ثورة الرابع عشر من يوليو والشعب العراقي بكل فئاته في حالة النزوع إلى الحرية والانعتاق، وبالمناسبة ثمة فيلم عنه بعنوان "نصب الحرية.. أحلام وثورات" للمخرج حيدر موسي دفار، فاز بالجائزة الثالثة في مسابقة فضاءات جديدة بمهرجان بغداد السينمائي، لكن شهرة "نصب الحرية" يُحاذيها هذا الولوج المبهر في عالم ألف ليلة وليلة.. للحظة بدا الأمر كما لو كنت دخلت كتاب "ألف ليلة وليلة" ذاته بمخزونه الإبداعي والسردي المذهل، إنفصلت تمامًا عن ضوضاء الشارع ومشاكله الراهنة، وجدتني مشدودة ل"كهرمانة" كما صممها الفنان محمد غني حكمت وهي تستقبلنا وسط نافورة في شارع السعدون وهي تصب الزيت على اللصوص كما في قصة "علي بابا والأربعين حرامي"، فتذكرت المعمارية العراقية الشهيرة زُها حديد حين اختارت "كهرمانة" عندما سُئلت عن أي نصب تذكاري بغدادي تفضّل أن يكون رمزًا إعلاميًا لبغداد، كتمثيل رمزي لعصر الرشيد الذهبي لبغداد، كما أنني لم أستطع تفادي الجمال في تمثالي شهر زاد وشهريار وهما أيضًا من تصميم محمد غني حكمت، تقف شهر زاد كأميرة في مواجهة أنثوية، استحواذية نحو شهريار المستلقي على أريكة منجذبًا إليها ولحواديتها.. التمثالان في حدائق أبي نواس نسبة للشاعر العباسي المعروف بحكاياته وأخباره مع الخليفة هارون الرشيد والسيدة زبيدة في الكتب التراثية، والذي شُيد له تمثالًا في نفس الحدائق على امتداد الضفة الشرقية لنهر دجلة في منطقة الكرادة الشرقية.
الكرادة تعيش راهنها بأسلوب التي تعافت بعد كارثة التفجير الإرهابي الداعشي الذي تعرضت له في العام 2016، تزدهر تجاريًا وثقافيًا.. فضاء للحداثة والتنوير، مقاه ثقافية: "كهوة وكتاب، رضا علوان"، ملتقى للأدباء والفنانين وذيوع أعمال أدبية وموسيقية، الكرادة تقريبًا لا تنام كأنها تعوض ما فات من سنوات الألم والبؤس العراقي، وهي جزء من بغداد المدينة التي كُتبت حكاياها إما بالدم أو عنه، تاريخ الحرب جزء من روحها مطبوع بشكل أو بأخر في مخيّلتنا نحن محبيها ومتابعي أخبارها على شاشات الأخبار.
خطرت لي رواية "فرانكشتاين في بغداد" للكاتب العراقي أحمد سعداوي، حين مررت ببعض الدروب الضيقة، المظلمة، المتفرعة من شارع الرشيد، كما لو كنت أستدعي لحظة موجعة في تاريخ البلد أو أحاول أن أستجيب لمحاولة الثقة بالذات في هذه المدينة الرافضة للموت، الموزعة بين النوستالچيا وحفلات البكاء الجماعي وبين النزوع الانعتاق إلى براح يخلو من أية متاريس أو أثقال قديمة.. إنها بغداد تدفع ثمن عراقتها وتميزها بفسيفساء عرقية ودينية، وثقافة راسخة، وهي الآن تحاول أنن ترفع صوتها الإبداعي بمهرجانات فنية وأنشطة ثقافية لأنها تريد الحياة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.