يولد الإنسان بعقل بدائى ساذج، يتشكل وينضج شيئاً فشيئاً، من خلال التعرض للمواقف والخبرات مع البشر والمكان والزمان. وبمرور الوقت تتوالى الأحداث وتتنوع العلاقات وتتسع مساحة الذكريات، ويتعلم كيف يميز بين الخطأ والصواب، وكيف يختار ولا يتردد فى الاعتراف بالزلات وكيف يقدم التبريرات، وكيف يصغى ويسأل ومتى يبتسم وينمق الكلام، وكيف يحرص على براعة الألفاظ وينغمس فى كثير من الحوارات والمجاملات، وكيف يتزن وقت الانبهار بالأشخاص والأشياء وكيف يدرك حقيقة الأمور وألا يتسرع فى إصدار الأحكام. وكيف يفند العيوب والميزات وألا يستهين بأبسط المعلومات، وكيف يتأمل ويكتشف التناقضات وكيف يتوقع كل الاحتمالات، وكيف يخطط و كيف يصل إلى مبتغاه. فكل يوم يمر يترك خلفه كماً من الخبرات التى ترتسم خلاصتها فى عقل الإنسان لتكون له هادياً فى محاولات السير الحثيث فى ضروب الحياة. وبالطبع لا يتساوى الناس فى مقدار ما يحصلون عليه من معلومات وخبرات نظراً لاختلاف مستويات سعيهم فى هذا الشأن. فهناك من يدرك، فى الوقت المناسب، حقيقة أن الوقت الذى يمضى لا يعود أبداّ، فيتعلم الدرس ويعلم أن الوقت يجب أن يقترن باكتساب الخبرة والمعرفة من خلال الاستخدام الأمثل لقدراته العقلية والمبادرة بالتفاعل مع البيئة التى تحيط به. وهناك نمط آخر من الناس يدرك تلك الحقيقة ولكن فى وقت متأخر فيحاول الهرولة لعله يستطيع اللحاق وتعويض ما فات بينما يوجد نمط ثالث من الأشخاص أصبح لا يقوى إلا على الانغماس فى التركيز على ما بنفسه من سلبيات وتضخيم ما يصدر عنه من أقوال وأفعال فيقع فى دوامة الجدال والمبالغة فى تحقير الذات فينزوى ليعيش حالة من التفكير السلبى الذى يؤدى به إلى حالة من الإرهاق والقلق وسوء المزاج. والخطورة الحقيقية تكمن فى هذا النوع الأخير من الأشخاص الذى لم يُحسن استخدام عقله فتخلف عن الجميع وأطلق العنان لانفعالاته لتجمح به إلى حيث تشاء. فمثل هؤلاء الأشخاص بحاجة إلى تعلم التفكير الإيجابى تجاه قدراتهم وتجاه الحياة بشكل عام وهو ما يساعدهم على تحقيق السلام النفسى مع ذواتهم، والتيقن بأن الوصول إلى القمة لا يحتاج إلى الفانوس السحرى ولكن يحتاج إلى الاستخدام السليم للعقل وبذل الجهد والاستفادة من تجارب الماضى، فخبرات الأمس ليست مجرد ذكريات بل خبرات تتراكم مع حصاد اليوم لترسم خطة الغد. ويتعاقب الليل والنهار ويظل الإنسان ساعياً ومهرولاً وطامحاً حتى إذا ما وصل إلى أرذل العمر أدرك حقيقة أخرى، وهى أنه لم يدرك كل الخبرات فلابد أن شمس اليوم التالى ستأتى بالجديد.