يقولون أنك لا تستطيع مع الدخان الكثيف أن ترى بوضوح وساعتها أنت بحاجة للتواضع لأن إنكارك للدخان سيعنى اختناقك لا محالة!! وإذا زعمت أنك ترى بدقة شديدة فلتعلم أنما ترى من رأسك فقط!! وفى التاريخ حقيقة مؤكدة، وهى أن الطغاة دوما ما يشعلون الحرائق والشعوب هى التى تستنشق الدخان، فمنهم من سيزعم أن لها رائحة عطرة! ومنهم من سيموت من الاختناق! أما غالبية الشعوب الساكنة الصامتة فسترضى بالدخان ويكون جهدهم فى تقليل خسائرها حتى تسير الحياة فى وهم الأمن الزائف. والتاريخ سيذكر حقيقة أخرى مؤكدة أنه عندما يسقط الطغاة سيكتشف المنتفعون والمعارضون أنهم يحتاجون للدخان بقدر حاجتهم للماء والهواء! ومع ذهاب الرئيس السابق فى مشهد ظل الشعب يتأمل طويلا ربما يكون حلما من الأحلام الجميلة التى تعوّد كثيرا أن يحقق فيها أمنياته، ومع مرور الوقت بدأ يصدّق أنه ذهب ورموزه فى القفص، إلا أن فرحته سرعان ما تحولت إلى حيرة فالآن أصبح مطالبا بتنظيم أموره بعيدا عن سلطة مطلقة عطلت عقله فى غالبية مواطنيه، والفئة القليلة التى عارضته تعوّدت أن تلعب دور الرافض وفجأة أحست فراغا ولم تجد سلطة تعارضها ولا عدوا تناضل ضده. وبمرور الوقت استطاعوا إيجاد الحريق وبقت القوى السياسية تغرق نفسها فى الجدل وتشعل النيران وتستنشق عبير الطغيان!! ورأينا الليبرالين والاتجاه اليسارى فى مصر يرمى نفسه فى أحضان الفكر الأصولى المتشدد حتى بدا كأنه ليبرالى متشدد فى وقت واحد، ولقد ظلوا عمرا كاملا يدافعون عن الحرية ولم يتحملوا رؤية أشخاص يظهرون بمثل أنصار مبارك ووصفوهم بالعبيد مع أن مبدأهم يكمن فى احترام مواقف الأشخاص! وناهضوا المحاكمات العسكرية وأرادوا محاكمات استثنائية لرموز النظام السابق وأعدوا لهم المشانق فى الميادين مع أن مبدأهم هو ضرورة توفير محاكمات عادلة لهم!. وبرزوا عبر الشاشات الفضائية ليقولوا إن رأيهم صواب مطلق، وأن الشعب يحن لجلاده وهو لا يفهم لأنه يجلس على الكنبة وليس من حقه الحديث أو إبداء الرأى وإذا تحدث فهو مخدوع وجاهل. وإذا تركو الشعب واستنشقوا الدخان فيما بينهم فكل من يخالفهم يصبح خائنا للثورة، فالإخوان المسلمون الذين حصدوا مع التيار الإسلامى أغلبية ساحقة فى صندوق انتخابى ديمقراطى ليبرالى يصبح بائعا للثورة وضحكوا على الشعب باسم الدين والمجلس العسكرى الذى تحمل عبء المرحلة الانتقالية بغير شكوى يصبح مخطئا ويسْتَعدون - من العداء- الغرب عليه ويشعلون الحرائق مثل الطغاة لكى يستنشق الشعب كراهية جيشه العظيم. أما الاعلام فهو عميل يطبل لأصحاب السلطة!! رغم أنهم ضيوف دائمون على شاشاته الرسمية قبل الثورة، أما القضاء فيحتاج إلى تطهير!. الخلاصة أن الدخان أصبح إدمانا لهؤلاء وهم أصلا كانوا يرتدون قناع الديمقراطية وصناعة العدو أصبحت ضرورة للبقاء حتى لو اضطروا أن يصنعوا من أنفسهم أعداء كى يستمروا بالحياة!. إن صناعة العدو عامل رئيس فى صناعة الفوضى داخل الشعوب والعدو دوما ما يكون صاحب سلطة أو فى مقامها، ومن ثمَّ فصناعته تكمن فى استعدائه واستعداء الشعب عليه فإذا لم يكن المجلس العسكرى سيكون الإخوان المسلمون وإذا لم يكونوا سيتجهون إلى رموز المجتمع من الفنانين والكرويين وأصحاب الأقلام والفكر، وحتى من كانوا يصنفون فى السابق على أنهم من رموزهم إذا ما جنحوا برأى مخالف سيصبحون الآن أعداء لأنهم تجرأوا وخالفوهم. إن الهدف الحقيقى وراء ذلك هو تحطيم أى معنى لأى رمز من رموز المجتمع وأصبح مفهوما أنهم أرادوا أنفسهم فقط وأرادوا وطنا جديدا على شاكلة الإعلان القديم (انسف حمامك القديم!) وإسقاط كل سلطة فى البلاد من أجل إعادة بناء وطن منفصل عن تاريخه ومواطنيه. يظل السؤال ما هى الحيلة التى ستصنع بها العدو؟ إن صناعة العدو تستلزم ارتداء ثوب الضحية فلا يوجد عدو بدون ضحية، ومع صعوبة المرحلة الانتقالية وحالة الانفلات، التى نحن جميعا نتحمل المسئولية فيها وليس المجلس العسكرى وحده، حدثت أخطاء فردية ووقع شهداء بشكل مؤسف، ولا نعرف على وجه الدقة من كان المسؤول عن ذلك الدم مع دعاوى الطرف الثالث وضرب النار غير المعروف وجهته مع تبادل الاتهامات بين هؤلاء بمسئولية المجلس العسكرى وإلقاء التهم على جهة مجهولة، لكن الظروف سمحت بوجود الضحية ووجود العدو، وهؤلاء جعلوا قضية الشهداء قضيتهم، حتى بدت كأنها تتاجر بها لخدمة أفكارهم بإسقاط المجلس العسكرى فحشد المليونيات والدعوة للعصيان المدنى وتشويه الجيش المصرى العظيم كانت أهم أدواتهم. وساهم الإعلام – مع التنبيه بعدم التعميم-ببراعة فى تجسيد دور الضحية لإيضاح فكرة العدو، فمع حشده الكامل للتأثير على عواطف الجماهير ومشاهد الدماء أصبح هناك عدوا وقضية يتم النضال من أجلها وأصبح الحديث عن هدم مؤسسات الدولة صريحا وبلا خجل بحجة فساد تلك المؤسسات، وطبعا كان الحديث عن أمور أخرى مثل كيان الدولة والحرص على تماسكه وهيبته من الأشياء المثيرة للسخرية، فطبعا هم من يمتلكون الرؤى الرشيدة للبلاد والعباد!! إن الشعب الطيب الذى تحمل ما لا يتحمله شعب آخر فى العالم هو الضحية الحقيقية لهؤلاء أما هم فيتحملون كل الفوضى التى ينشرونها فى البلاد وبعد سقوط السلطة الغاشمة التى أفقدت الوطن فى آخر عشر سنوات كل معانى الجمال وأورثته قبحا وفقرا جعلته يهب ليدرك الحياة التى يستحقها ويتنفس عبير الحرية والكرامة. كان مُنتظرا من هؤلاء أن يقودوا الوطن إلى حدائق الحرية بما يمتلكونه من تاريخ نضالى ومواقف سابقة، لكننا فوجئنا بهم يتعاملون مع الشعب بعداء محزن وتعال لا يليق وظنوا أنهم يمتلكون مفاتيح الوطن. إن صناعة العدو وارتداء ثوب الضحية أداة أخرى لإسقاط الأوطان بعدما تحدثت سابقا عن الشائعات والتمرد على الأعراف والتقاليد المعروفة مجتمعيا بالضرورة وإشعال روح الفتنة الطائفية، نراهم من جديد يطبقون نظرية جديدة هى إشاعة الفوضى عبر هدم كل الرموز وكل المؤسسات الوطنية المخلصة وإشاعة الفكر التطهيرى المدمر، لكنى أظن أن يقين الشعب وإرادته أذكى وأقوى من عقولهم، فالتاريخ يؤكد أن الشعب ما أن ينهض ويريد إلا وينتصر وما كانوا يحسبونه لا يدرى ولا يفهم، فإذا به يعلمهم كيف يكون الإخلاص للوطن فمن عاداه يسقط ومن مثّل عليه أزاح من على وجهه القناع!!.