طوابير بشرية طويلة لا ترى مداها العين يتخللها ململة الانتظار حتى يحين الحين، بدأت تحط رحالها منذ الساعة الثامنة صباحاً وربما قبل ذلك، تعجب أن يصطف فى هذه الطوابير وبإصرار دفين كبار السن والطاعنون فى شغف لم نره من قبل، وكأنهم بذلك يحاولون الرجوع بالزمن إلى شباب لم يأخذوا فيه فرصة، ولم يكن لديهم متنفس للتعبير عن رأيهم وموقفهم مما يجرى فى بلادهم، أن يصوتوا بما يريدون كيفما يريدون، وهو ما لم يكن متاحاً فيما مضى حتى ولو فى التمنيات وهو أضعف الإيمان. انتخابات مصيرية يختار فيها الشعب نوابه لأول مرة، ترى ماهو شعورهم وهم يدلون بأصواتهم بحرية ودون ضغوط ؟ فلم تكن هذه الطوابير من أجل رغيف العيش أو اسطوانة البوتاجاز, لكنها جاءت لتضع لمسات مصيرها ومستقبلها، فهم الآن جزء من القرار ولهم الحق فى محاسبة صانعيه لو أخطأوا. لأول مرة منذ عقود يشعر المواطن بقيمة صوته الذى سيكون مؤثراً فيما لو تقاعس عن الإدلاء به، الآن يشعر بفخر اتجاه آدميته وإنسانيته التى سلبتا منه رغماً عنه، فكان مجرد رقم لا أحد يبالى به إلا إذا اقتضت الضرورة، وبعدها لا قيمة لهذا الرقم ولا أحد يلتفت لمكوناته. من الآن فصاعداً سيصبح هذا الرقم قوة مؤثرة لها ثقلها فى تحديد مصير الوطن، وله رأى لابد أن يحترم، ويدافع عنه، لم يكن الثمن بخساً بل جاء على جثث الشهداء والضحايا الذين سقطوا حتى يتيحوا مجالاً للآخرين، كى يستمتعوا بهذا الهامش من الحرية التى ظلت مغدورة سنوات طوالا، أسيرة فى سجن الاستبداد والسيطرة ونفى الآخر. إصرار الناخب على الإدلاء بصوته فى عرسه الديمقراطى، يجعله عصياً على المؤامرات التى تحاك ضد إرادته، فزمن اللامبالاة والسلبية قد أفل، وتربع على عرشه التحدى والتصميم والإحساس العالى بالمسئولية، فلا المؤامرات ستنجح ولا البلطجة ستنتصر مهما كان حجم التآمر، فهى مجرد ذر للرماد فى العيون، مقابل هذا الإصرار العنيد، لفرض إرادة الشعب.. الشعب الذى إذا أراد يوماً الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلى.. ولا بد للقيد أن ينكسر. من حقنا أن نحلم، ومن حقنا أن نحافظ على أحلامنا، ومن حقنا أن نصبح أرقاماً فاعلة، ذات قيمة آدمية لاتمتهن ولا تهان ولاتباع فى أسواق النخاسة لكل من يدفع أكثر، آن الأوان لنعيش مرفوعى الرؤوس، وليس من حق أحد أن يسلبنا هذا الأمل!