كان المشهد على النحو التالى، طابور طويل يقف فيه الناس فى تونس رجالاً ونساء منذ السادسة صباحا، قبل ميعاد فتح أبواب الاقتراع للتصويت بساعة على الأقل، وفى العاشرة تقريباً كان راشد الغنوشى الزعيم التاريخى لحركة النهضة التى أسست حزباً تدخل به الانتخابات يتقدم ليدلى بصوته، وعند خروجه كان الصف الطويل يهتف كله تقريباً فى نفس واحد: ( degaje - degaje) ) بفرنسية قحة.. اخرج اخرج، الرجل الذى تمرس على الابتسام والوقوف ضد بن على لسنوات ابتسم كزعيم ثم ابتلع ابتسامته ومضى، كانت الأصوات التى ثارت فى وجهه تشبه طلقات الرصاص وقت القتال، لكن على رأى أستاذنا هيكل كانت الحرب قد بدأت منذ وقت طويل، والمشاهد قد توالت على المسرح بسرعة كما يلى: المشهد الأول حين فوجئ المارة فى أحد الشوارع الرئيسية بصورة كبيرة بطول ثلاثين متراً وعرض عشرة تقريباً للرئيس المخلوع بن على ترتفع على أحد الحوائط المخصصة للإعلانات والتى تقع مباشرة فى مرمى النظر من أية زاوية، وبعد أن تجمع الناس حولها فى ذهول وغضب معاً، سحبت الصورة لنجد صورة أخرى مكتوبا تحتها "حذار من ديكتاتور آخر"، كان المشهد برمته صادماً ومنذراّ ومملوءاً بالكوميديا السوداء، ولم يخفف منه حالة السخرية التى طبعته. المشهد الثانى كان فى قلب العاصمة، بالتحديد فى وسط شارع الحبيب بورقيبة عند تمثال إبن خلدون الذى يتوسط منتصف الشارع، منحوتة لفنان تشكيلى تونسى تمثل إمرأة رأسها هرِم متداع للخلف، وصدرها مرتخ بفعل الزمن الذى تظهر خطوطه فى عدة أماكن، ومن بطنها فى الجانب الأيسر يخرج شباب صغار متلاحقون بوجوة عفية وأجسام فتية ووجوه ضاحكة رغم قسوة المادة التى صنعت منها وجوههم، كان الجمهور يتفرج صامتاً بتعليقات قليلة تشيد بالعمل، لكن اثنان أحدهما ملتح تماما تركا كل شىء وتحدثا بعسف واضح عن الصدر الحديدى العارى، حاول البعض أن يشرح لهما، وأن يقول إن هذه تونسالجديدة لكنهما أصما عن كل شىء، وتناثرت أطراف حوار عن الإسلام والتماثيل فانفضوا عنهما. المشهد قبل الأخير، حصلت النهضة على واحد وأربعين فى المائة، لها حسب تقديرى عشرون بالمائة تقريباً من مناصريها والمؤمنين بها، والعشرون الأخرى بين من تعاطفوا معها جراء ما لقته من فظاعات أيام النظام البائد أو من مناطق تتدنى فيها نسبة الوعى وتنتشر فيها أمراض الفقر، الذى يجعل البيئة صالحة لانتشار الأفكار التى تمتطى الدين، وضد فلول بن علي، وذهبت عشرة فى المائة تقريباً للهاشمى الحامدى، وهو صاحب قناة تليفزيونية من فلول المخلوع كان وقت الانتخابات فى الخارج متخوفاً من ملاحقته لاحقاً، لكنه من منطقة سيدى بوزيد بلد بوعزيزى التى هبت منها رياح الثورات العربية، والتى صوتت ضد الحداثيين والنهضة والحكومة الانتقالية والحكومة القادمة أيضاً فى إعلان واضح أنها قدمت كل شىء ولم تحصل على شىء واحد للآن، هو تصويت ضد المعنى، بمنطق الانتحار والاحتجاج الصارخ، وذهبت الخمسون فى المائة الباقية للحداثيين تحت راية ليبرالية أو علمانية واضحة، لكنها تفرقت بينهم مما جعل إنتصار النهضة واضحا، رغم أن نسبة الحداثيين مجتمعة تفوق نسبتهم. نجح حزب النهضة فى خطابه الذى قدمه علانية للناس، لكن ما يحدث على شاشة الفضائيات ليس هو ما يحدث فى الواقع بالتأكيد، ممارسات الواقع تجنح إلى التضييق فى اتجاه معاكس تماماً للخطاب الإعلامى الذى يتبناه الغنوشى تحديداً حول عدم المساس بالمكتسبات ولا بحقوق المرأة. الكثيرون فى مصر انتظروا نتائج تونس كأنها انتخاباتهم هم، خوفا من أن تستغل (الجماعة) عندنا النتائج لصالحها، وهو أمر لا مراء فيه فى نظر الكثيرين، لكنهم لا يعلمون أن الشارع فى تونس لن يسمح رغم نتائج الانتخابات بأى انتقاص لأى مظهر من مظاهر الحداثة مهما كان الثمن، الناس فى تونس يوقنون أن العمل عبادة دون أن يوقفوا مصالح الناس لصلاة الجماعة، وحتى وإن صام بعضهم الأيام الاولى من ذى الحجة يفعلونها فرادى دون طنطنة، ويصلون الجمعة فى توقيتين ليلحق بالثانية من كان عنده عمل فى الأولى ولا يختمون مكالماتهم التليفونية بمظاهر دينية، ولا يفكرون على الإطلاق فى الحكومة الحلال، ولن يسمحوا بها، ولم يجرؤ أحدهم علانية أن يتحدث عن غزوة الصناديق، رغم أن بعض السلفيين قد هاجموا قناة نسمة التليفزيونية التى بثت فيلم كارتون إيرانى مدبلج اعتبروه ضد قناعاتهم ودخل بنا فى صراع خفيف للسنة والشيعة، وهاجموا فيلماً آخر اعتبروا أنه يتعرض للدين، لكن الناس ماضون فى مشروعهم غير متنازلين عن مكاسب اشتغل عليها علماء وفقهاء ومفكرين مستنيرين لسنوات طويلة، ووضعها بورقيبة موضع التنفيذ وبنى عليها مشروعه الحضارى لتحديث تونس. مررت على العناوين دون التوغل كثيراً ، لكننى أتوقف عند المشهد الأخير الذى قد يختزل الحكاية: تصريح حمة الهمامى زعيم حزب العمال الشيوعى، الذى ناضل طويلاً ضد نظام بن على البوليسى الذى أذاقه المر، منتقداً أداء بعض الأئمة الذين دعوا من على المنابر إلى التصويت لمن يخاف الله، حين قال: إن حزب العمال كان يدافع عن المساجد وعن الإسلاميين قبل الثورة، وقت كان نظام بن على يعمل بكل طاقته القمعية لقمع الجميع، الإسلاميين خاصة بتعبير نظامه الشهير – تجفيف المنابع - وأن حزبه الشيوعى سيتصدى لكل من سيهدد حريات التونسيين الخاصة والعامة. يقول ذلك ومعه قطاع كبير، لن تجد هناك من يدعو إلى الحكومة الحلال رغم تقدم النهضة فى انتخابات المجلس التأسيسى، بينما الجماعة عندنا والذين على مسافة قريبة منها يضعون صورة وردة بدلاً من صور المرشحات أنفسهن ويفتون بأن التصويت لصالحهم صدقة جارية فى سبيل الله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.