قبل ثورة يناير كان رجال الأعمال هم الشرايين التى تضخ الدماء فى جسد الحزب الوطنى المنحل، وحرص الحزب على أن يضم كل الأسماء المعروفة وحتى غير المعروفة من رجال الأعمال. كانت تبرعات هؤلاء هى التى تغذى هذا الكيان الاسفنجى الضخم المسمى بالحزب الوطنى الديمقراطى. عشرات الملايين كانت تدخل سنويّا فى حسابات الحزب، بينما قائمة التبرعات التى رأيت إحداها بعينى عن عام 2007 تضم أسماء معروفة من رجال أعمال ورجال بنوك تصل قيمة تبرعاتهم فى المتوسط لنحو 300 ألف جنيه، وبعضها يصل إلى نصف مليون، هذا طبعًا بخلاف التبرعات العينية الأخرى، بينما كان الحفل الكبير بحق وكرنفال التبرع الأول هو ما يحدث قبل كل انتخابات برلمانية حيث التبرعات المليونية. لم تكن تلك التبرعات من أجل عمل الخير أو من أجل دعم ديمقراطية الحزب، فقد كانت الثمن الذى يدفعه هؤلاء، سواء للحفاظ على مكاسبهم المالية وامتيازاتهم الخاصة، أو لدخولهم البرلمان وتمتعهم بالحصانة التى هى المفتاح السحرى لخزائن الأموال والامتيازات والأراضى والحماية من القانون لمن عرف عنهم تورطهم فى البيزنس الحرام، بدءًا من تجارة المخدرات وصولاً لغسيل الأموال. سقط الحزب وتفرق الممولون وانقسم المتبرعون ما بين منزوين على أنفسهم يبذلون جل جهدهم ليظلوا بعيدًا عن دائرة المساءلة القانونية بقانون الغدر المنتظر، بينما امتلك آخرون جرأة أن يقرروا الخروج للنور ب «نيو لوك» جديد تحت مظلة أحزاب تحمل أسماءهم. سأحكى لكم قصة من دفتر أحوال الانتخابات التى نعيشها الآن.. القصة التى حدثت وما زالت حلقاتها مستمرة فى حى المعادى حيث أعيش، وهى عن رجل أعمال من أصحاب المليارات بحكم عمله فى مجال الذهب الأسود، رجل الأعمال قرر عام 2005 أن يحصل على حصانة المجلس لإكمال البرستيج الاجتماعى المطلوب، ولأنه فى دائرة كان يحتكرها اثنان من حيتان الحزب المنحل، أحدهما حوت تنظيمى من كوادر الحزب القديمة، والآخر حوت مالى ابتلع أكثر من نصف أراضى حى المعادى، فقد قرر النزول مستقلا خارج مظلة الحزب، أنفق الملايين بمنتهى البذخ بدءًا من شراء أصوات عائلات كاملة، وصولاً لإطعام أبناء الأحياء الفقيرة بالدائرة وتوظيف المئات، كان فى منتهى البذخ والكرم، وشكّل بالفعل تهديدًا مباشرًا لرجال الحزب، بل وكاد يفوز لولا قصة سمعتها أن مدير أمن القاهرة السابق إسماعيل الشاعر أصدر قراره النهائى بفوز عضوى الحزب، وخرج المرشح المستقل مهزومًا فى معركة لم تكن متكافئة سياسيّا وإن كانت كذلك ماليّا، وأدرك ورجل الأعمال أن طريق الفوز يجب أن يمر أولاً على مكتب صفوت الشريف وجمال مبارك وتابعه عز. ولمزيد من التلميع اشترى رجل الأعمال حصة فى إحدى الجرائد اليومية أتاحت له أن يصبح من كتابها المرموقين، فصار رجل أعمال وعضو الحزب الوطنى وكاتبًا صحفيّا، وأخيرًا جاءت انتخابات 2010 وبحركة حزبية خبيثة قرر الحزب الذى كان يملك مقادير انتخابات مصر، ومن باب عدم إغضاب أحد من أبنائه أن يخلق دائرة جديدة للمرشح الملياردير تضمن عدم المساس بدائرة رجل أعمالها ملياردير المقاولات محتكر دائرة المعادى، وعدم ابتعاد ملياردير البترول عن أبناء دائرته ونفوذه، وتم الأمر بسلام ونجح المرشح باكتساح لكنه للأسف لم يهنأ بنجاحه، ولم يحصد لقاء ما دفع فقد قامت الثورة وحلت المجلس. وبجرأة يحسد عليها، وكما فعل زملاء له قرر رجل الأعمال أن يكون هو الحزب فأنشأ حزبًا أصبح هو رئيسه ثم مرشحه لانتخابات مجلس الشعب القادمة. من حقه أن يكون نائبًا لكن يظل فعلاً السؤال الأهم: لماذا هذا الحرص الغريب والتقاتل المدهش على دخول البرلمان؟ ما الذى ينتظره من البرلمان الذى دفع ويدفع من أجله الملايين؟ هل هو فقط هوس الشهرة أم أن البيزنس سيظل حتى بعد الثورة يبحث عن الحصانة لتحميه؟ وهل تساوى الحصانة هذا الثمن؟ وما هو العائد منها؟ فرجال البيزنس لا يدخلون «برلمانًا»، أقصد مشروعًا، إلا إذا كانت أرباحه مضمونة ومكسبه يفوق ما دفع فيه أضعافًا