جاء صديقنا الشاعر المعروف أمجد ناصر برفقة آخرين وأعطانى كتاباً يحمل عنوان «الدنو من المعتصم»، وقال: «هذا الكاتب بورخس»، وهو كاتب مهم جداً، والنسخة لم تطرح فى المكتبات بعد. كان ذلك فى الأيام الفاصلة بين عامى 1991 و1992، حيث كنت مستلقيا فى مستشفى «سانت مارى» بقلب العاصمة البريطانية لندن بعدما استبدلت خمسة من شرايينى المسدودة. وأنا أريد، قبل الاستطراد، أن أعتذر من بعض القراء الذين اعتادوا مطالعة ما يتعلق بالشأن السياسى دون غيره، فلقد حدث أن الأيام الأخيرة من الشهر الماضى، 24 أغسطس، صادفت الذكرى الثانية عشرة بعد المائة لميلاد أحد أبرز الأصوات الأدبية فى القرن العشرين، الكاتب الأرجنتينى (خورخى لويس بورخس 1899/ 1986)، والتى احتفت بها دول إسبانيا وأمريكا اللاتنية احتفاء يليق بالرجل وما خلفه. فى هذه الأيام البعيدة إذن، ما إن غادر الأصدقاء حجرة المستشفى، وما إن بدأت فى تصفح الكتاب الذى ترجمه إبراهيم الخطيب، حتى فاجأتنى تلك الفقرة البديعة من المقدمة الموجزة التى صدر بها ترجمته.. كتب: «اقترح رجل على نفسه مهمة رسم العالم: وخلال سنوات طويلة من عمره أثث الفضاء بصور الأقاليم، والممالك، والجبال، والخلجان، والسفن، والأسماك، والمساكن، والأدوات، والكواكب، والخيول، والأشخاص. وقبل أن يقضى نحبه بقليل، اكتشف أن متاهة الخطوط الصبورة التى دأب على وضعها إنما تخطط صورة وجهه هو، صورة متحررة من ترهات التاريخ». بعد ذلك انتقلت لقراءة قصص الكتاب، ولاحظت أنه يعمل على نصوص تم إنجازها سلفاً، أو حسب ما قال فيما بعد صديقنا محمد أبوالعطا فى تقديمه لمختارات الكاتب كيف أن: «بدايات بعض قصصه كأنها مبحث علمى.. أو طرح جدلى.. فقد يبدأ النص بفقرة من عمل أدبى قديم أو من مرجع تاريخى أو علمى أو باستدعاء أسطورة قديمة أو طرح لم يحسم». عندما تبينت تلاقح الكتابات هذا، قدرت الرجل بشدة إلا أننى لم أنبسط كثيراً، ربما، والقياس مع الفارق طبعاً، أننى كنت أستند إلى مرجعية من تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة من حولى. مضت السنون إذن وشاع اسم «بورخس» من حولى، سواء بين شباب الكتاب أو بعض من شيوخهم، ذلك بعدما كان شاع فى العالم كله، وهو الشيوع الذى، حسب «بياتريث سارلو»، قد جرده من جنسيته حتى صار اسمه أكثر عالمية من بلاده ذاتها. كانت الترجمات عنه قد تفاقمت، سواء عن أعماله أو الحياة المدهشة للمثقف العالم الذى عمل أميناً للمكتبة الوطنية فى بلاده وهو ضرير أو شبه، وقرأنا قوله: «أنا لا أكتب لقلة مختارة، فهى لا تعنى شيئاً بالنسبة لى»، وهو كلام ظل يملأنى بالدهشة، حيث المعروف أنه لم يكن: «فى يوم بالكاتب الذى يقرأه كل الناس أبداً»، فهو يتحدث مع النصوص التى دخل معها ومع مؤلفيها فى مساجلات أدبية.. وهى نصوص من روايات ومباحث وأساطير، غير معروفة بالنسبة لنا على الأقل. وكنت أقول لنفسى لا بد أن معرفة بالأصول التى اعتمد عليها كانت كفيلة بمضاعفة فهمنا ومتعتنا، وأن جموع المعجبين من حولى لا يعرفون، كما لاحظت، الكثير، ولا القليل غالباً عن هذه الأصول، من أين جاء التشيع والإعجاب البالغ إذن؟ لم أعرف. بقيت إضافة ضرورية فى هذا الشأن الجلل.. كان «بورخس» رأى فى طفولته أباه وأمه فى الفراش معكوسين فى مرآة، وهو عندما تزوج من السيدة «إليسا» لم ينم معها قط، حيث كانت لديه حجة لها وجاهتها تقول إن المرايا والجماع مقيتان، لأنهما يضاعفان عدد الرجل.