المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : مابين 23 يوليو52 و 30 يونيو 2013 تاريخ ورجال ومواقف!?    نشرة «المصرى اليوم» من الإسكندرية: «التأمين الصحى» تبحث تطبيق المنظومة.. و40 طريقة صوفية تحيي الليلة الختامية ل«المرسى أبوالعباس»    النيابة العامة تواصل التفتيش على مؤسسات رعاية الأطفال والمسنين    إيران تفتح باب التفاوض النووي بشروط صارمة وتلوح بمواجهة مفتوحة    وداعًا هالك هوجان.. 5 أفلام حولت المصارع الأسطوري لنجم هوليود    إصابة 9 أشخاص في تصادم سيارتين ملاكي وميكروباص على الطريق الدائري بالقليوبية    «خطافة رجالة».. غفران تكشف كواليس مشاركتها في مسلسل فات الميعاد    الشيخ خالد الجندي: «ادخل العبادة بقلب خالٍ من المشاغل الدنيوية»    إجراء جديد من «الصحة» لتحسين أوضاع الأطباء (تفاصيل)    احتفالًا بالعيد القومي ال73.. إقبال جماهيري كثيف على المواقع الأثرية بالإسكندرية بعد فتحها مجانًا    وزير الخارجية يتوجه إلى السنغال في المحطة الخامسة والأخيرة من جولته في غرب إفريقيا    شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    نيوكاسل يضم موهبة كورية    كيف تحصل على تذاكر صيف الأوبرا 2025 باستاد الإسكندرية؟    صائد الجوائز.. الدكتور صبحي السيد يتحدث عن مسيرة إبداعية حافلة في المهرجان القومي للمسرح    خبر في الجول - الزمالك ينتظر قرار فيريرا لضم مدافع حسنية أغادير    إبراهيم عادل: أبو تريكة قدوتي.. وهدفي في باراجواي اللحظة الأسعد بمسيرتي    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    تحرير 93 مخالفة تموينية بالمنيا    قرار رادع .. لسكة الحديد تنهى خدمة مشرف قطار بسبب تأخير الركاب نصف ساعة بمحطة تلا    وزير الخارجية يناقش سبل تعزيز العلاقات الثنائية مع وزير خارجية مالى فى باماكو    إعلام فلسطيني: 89 شهيدًا و453 مصابا بنيران جيش الاحتلال خلال 24 ساعة    "الشعب الجمهوري" يشيد بجهود مصر في دعم غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    رسميا.. الأهلي يعير كباكا إلى زد لمدة موسم واحد    وزير الإسكان ومحافظ الدقهلية يفتتحان مركز خدمة عملاء شركة المياه في نبروه    ضبط سائق يقوم بحركات استعراضية خطرة خلال حفل زفاف بالإسكندرية    غسلوا 75 مليون جنيه من تجارة المخدرات.. الداخلية تضبط 3 متهمين    الصحة تشارك في المؤتمر الدولي السابع عشر لمناظير المخ والعمود الفقري    المشاط تدعو الشركات السويسرية للاستفادة من آلية ضمانات الاستثمار الأوروبية لزيادة استثماراتها في مصر    اليوم.. عروض لفرق الشرقية والموسيقى العربية بالعلمين ضمن صيف بلدنا    إقبال جماهيري على فعاليات "المواطنة" بالمنيا.. "الثقافة" تُضيء القرى برسائل الوعي والانتماء    بسبب السرعة الزائدة.. مصرع عامل ديلفري إثر انقلاب دراجته النارية بالتجمع الخامس    "التجويع كسلاح ".. تقرير جديد لمؤسسة ماعت يرصد الأوضاع الإنسانية الكارثية في قطاع غزة    ماكرون وزوجته يرفعان دعوى تشهير ضد المؤثرة الأمريكية كانديس أوينز    محافظ أسوان يشيد بالسيدة فاطمة قاهرة الأمية ويقرر تكريمها تقديرا لإصرارها: نموذج للإرادة والعزيمة    قبل 150 يومًا من انطلاق "كان 2025".. الفراعنة ملوك الأرقام القياسية    الشباب والرياضة تتلقى الاستقالة المسببة من نائب رئيس وأمين صندوق اتحاد تنس الطاولة    50 عامًا على عرض «الفك المفترس».. احتفالات ضخمة بأنجح الأفلام في تاريخ السينما    لطلاب الثانوية العامة والأزهرية.. شروط قبول بالأكاديمية العسكرية المصرية (إنفوجراف)    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    المجلس الأعلى للإعلام يوافق على 21 ترخيصًا جديدًا لمواقع إلكترونية    بدء التشغيل الكلي لمجمع المواقف الجديد في بني سويف    عروض فنية وفلكلورية في استقبال الباخرة السياحية «AROYA» بميناء الإسكندرية    بقيمة 227 مليون جنيه.. «صحة المنوفية» تكشف حصاد العلاج على نفقة الدولة خلال 6 أشهر    نتيجة الثانوية الأزهرية بمحافظة كفر الشيخ.. رابط مباشر    انفجار لغم يشعل صراعا بين كمبوديا وتايلاند.. اشتباكات حدودية وغارات جوية    شهدت التحول من الوثنية إلى المسيحية.. الكشف عن بقايا المدينة السكنية الرئيسية بالخارجة    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    أمين الفتوى: لا يجوز التصرف في اللقطة المحرّمة.. وتسليمها للجهات المختصة واجب شرعي    علي جمعة يوضح معنى قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}    وزير الري يتابع جاهزية المنظومة المائية خلال موسم أقصى الاحتياجات    جامعة قناة السويس تُعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني وتُقرّ دعمًا للطلاب    بنسخ خارجية لمختلف المواد.. ضبط مكتبة بدون ترخيص في الظاهر    معسكر كشفي ناجح لطلاب "الإسماعيلية الأهلية" بجامعة قناة السويس    رسميًا بعد القفزة الجديدة.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الخميس 24 يوليو 2025    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    أعراض برد الصيف وأسبابه ومخاطره وطرق الوقاية منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عفيفى مطر.. شاعر من أولى العزم
نشر في اليوم السابع يوم 04 - 07 - 2011

قليلة هى الأسماء الكبيرة التى تعرفنا عليها عن قرب، من بين هذه الأسماء كان الشاعر محمد عفيفى مطر الذى كانت سمعته فى البعيد أكبر منها فى القريب، ربما لأن القرب حجاب، وربما لأن زمار الحى لا يطرب، وربما أيضاً لأننا تعودنا على نوع من القهر تمثل فى التعالى والغياب وخلق المسافات الفاصلة بين المحب والمحبوب، لكن عفيفى ابن الأرض وليس السماء، كان ضد هذه الرغبة فى الألوهية الزائفة، كان حريصاً كأى آدمى رقيق وواضح مع نفسه على أن يأكل من حشاش الأرض، ويجلس على ترابها ومقاهيها وبين أفراد ملحها من الشعراء والفلاحين وعمال المزارع، فلم نكن نرى فيه الهالة المقدسة التى نضفيها على الغرباء والبعيدين عنا، لم نعمل خيالنا كثيراً حول قيمة الرجل وقامته ومشروعه الشعرى الكبير بمراحله المتعددة ومستويات تأويله الكثيرة، ومن أجل أن نريح ضمائرنا ونحن نفلسف الوجود كما اعتدنا دائماً من على كراسى مقاهينا كنا نبحث عن الأخطاء ونضخمها، كنا نبحث عن مبرر للتجاهل والقتل بالترك، رغم أن سعادتنا كانت تتجلى كلما رأيناه قادماً علينا بوجهه الناعم الصغير، وشعره الأبيض الذى اختار له تسريحة تشبه غيطان الذرة بشواشيها البيضاء، كان كل شىء فيه منتصباً وعفيفاً ورائعاً وربما قاتلاً أيضاً، فلصمته رائحة الكلام، ولحديثه رائحة الحروب والعسف وصراعات البشر الكبرى والصغرى، كنا نسمع منه بالساعات، ونتهمه بالصعوبة والغموض، فيتهمنا بالجهل والتقصير وعدم المعرفة، لكننا لم نكن أعداء فى يوم ما، كان كالأم التى تجمع حولها الأبناء الطيبين والأشرار، فتعامل كلاً منهم على قدره وقدرته، كان حبه الأكبر موجهاً لهؤلاء الذين لم تدركهم حرفة الأدب، وقسوته الوحيدة على هؤلاء الذين تركوا قراهم وبيوتهم وجاءوا بقوانينهم الجديدة كأساس للعمل البشرى، قوانين تمتلئ برائحة الغابة وقطاع الطرق والبحث عن الوجود بالجسد، البحث عن إسكات الجوع عبر انتحال الأدب، كنا نغضب أحياناً منه، ونفرح كثيراً له، ونهتم بكل كلمة يلقى بها، وإن صدرنا له نقيض ذلك، وكثيراً ما ارتاب فينا وفى قدرتنا على حمل الأمانة من بعده، وكثيراً ما انتقدنا جبروته وحضوره الدائم، ومصاحبته أناساً اقل منه فى القيمة والقدر، لكنه كان محباً لكل من فى قلبه ذرة من حب، أو بادرة أمل فى أن يكون إنساناً، مجرد إنسان، يؤمن بالعمل.
حين تعرفت عليه كنت فى العام الجامعى الثانى، يومها كان قد خرج من معتقله الذى علم به القاصى والدانى، لم أذهب مع الزاحفين من أهل قريتنا، إلى بيته فى رملة الأنجب، ليهنئوه على سلامة الخروج، لكننى ذهبت بعد أن انفض المولد كما يقولون، قالت لى زوجته أنه فى "الغيط"، واتخذت مسارات غريبة حتى وصلت إلى رأس الحقل، سألنى من أين وابن من وماذا تكتب، نزعت الأوراق التى فى جيبى وقدمتها إليه، نادى على من يعمل برفقته فى الحقل أن يشعل النار ويصنع شاياً يليق بضيف من القرية المجاورة، ضحك الرجل وقدم كوبين من الشاى الحبر حسب قوله، جلسنا أسفل شجرة فاكهة فقلب فى الأوراق مرات ثم قال : هل تحب ؟ كان المعنى واضحاً بالنسبة لى على الأقل، قلت لا، قال ولا أهلك ؟! ضحكت " أحبهم طبعاً "، فلم لا تكتب عنهم ؟ هكذا سألنى، وشعرت فى تلك اللحظة أن تيار الكهرباء الواصل إلى المخ قد انقطع، قال لماذا لا تكتب عنهم، وعن الأرض التى تعمل بها، عن القمح الذى تحصده، والذرة التى ترويها، أتترك كل ذلك وتكتب عن حبيبة متوهمة ؟! شربت الشاى وخرجت من الحقل بحمل ثقيل، فتعددت الزيارات ودارت الحوارات التى سألته فيها عن كل ما يعن لمريد يرغب فى جلاء الصورة عن شيخه الجليل.
حفظته أقدامى الطريق إلى مطر أكثر مما حفظت ذاكراتى أشعار، وفى كل مرة كنت أحسد عمال المزرعة الذين يجلس معهم، والفلاحين الذين يحكى عنهم، وعابرى السبيل الذين يبادلونه النكات بالنكات، لكننى كنت أنصت أكثر مما أتحدث، كنت أرى وأشاهد وأتعلم، وكانت رسائله واضحة " اجعل الكتاب أستاذك"، "أنت الذى تحدد اختياراتك فى القراءة"، "عليك أن تقف يومياً أمام بائع الجرائد وتقرأ العنوان على الأقل "، لكن طاقتى على الاستيعاب لم تكن تفى بالغرض، ولم تكن الأمور بمثل وضوحها الآن، فتركته ورحت ألتحق بأقرانى من الشباب، مجموعة من الشعراء المؤمن بقدرة قصيدة النثر على التجديد والتغيير وفتح المزيد من الآفاق الواسعة للشعر، لكننا فى خضم جدلنا الدائم حول النص وطرق كتاباته وشعرائه وميراثه القريب والبعيد لم ننس أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وبدر السياب ونازك الملائكة، وعلى خلاف كبير كنا نتحدث عن حجازى، بعضنا يراه جاهلى فى ثوب أزهرى، والآخر رآه أزهرى فى لباس فرنسى، لكن اتفاقنا الوحيد كان على انتمائه الواضح لأغراض الشعر القديمة، بينما كانت مكانة درويش وسعدى وعفيفى لا تضارعها مكانة، الأول كان واضحاً كوضوح الشمس فى كل شىء، حتى أننا كنا نترنم بقصائده وكأننا نذيع بياناً جديداً للثورة، أما صاحب رحلة الحاج عمران والأخضر ابن يوسف ومشاغله فكان صاحب الطواسين الكبيرة، كثيراً ما يباغتنا بشلال متدفق فلا تعرف كيف ننقذ أنفسنا منه، وكثيراً ما يجف ماء الشعر بين يديه ليصبح مجرد كلام، لكنه فى كل الحالات كان كبيراً بقدر شعره، أما مطر فكان الأب والحمى والورد اليومى، كنا نعرف أننا نمتلك قامة وجداراً وقدساً نلوذ به كلما فتنا بشعراء العربية، فلا يمكن الحديث عن سعدى ودرويش دون المرور عليه، لكنه لم يكن مروراً بقدر ما كان سكنى، وكأننا وصلنا إلى قارتنا الجديدة أو حصننا القديم، كثيراً ما أضعنا القطار الأخير العائد من شبين الكوم إلى قرانا الغارقة فى السكون والظلام، وكثيراً ما قررنا أن نضيع الليل على مقاهى شبين، وكان الشعر هو مادة الحياة فى أجواء البرد وتشمم المخبرين لهؤلاء الصعاليك الجدد، وكان مطر بقصائده الطويلة ودواوينه المنسوخة على آلات التصوير الحديثة هو الرفيق فى كل درب ،لم يكن له ديوان واحد بين أيدينا، لكننا جمعنا الكثير من قصائده، كان يكفى أن يشترى أحدنا مجلة بها قصيدة أو مقال عنه، وما كان أكثرها فى تلك الأيام، حتى نشترى المجلة أو نصور ما بها ونجلس لنقرأ، كنا نتبارى فى القراءة بأصواتنا لقصائده، ونتحدث عن تأثيره على السبعينيين، مؤمنين على نظريته فى ضرورة أن يتعب القارئ ويعمل ذهنه مثلما تعب الشاعر، كنا نرى الفرس والروم والعرب والحسن ابن الهيثم وعمر ابن الخطاب والحضارة العربية قائمة أمام أعيننا فى شعره، فننتقل من " رباعية الفرح " وعناصر الوجود إلى والده الذى ضم فضل العباءة على منكبيه فى "يتحدث الطمى"، أو محمد صاحب الأوجه الصاعدة فى كل درب فى إهدائه ل"أنت واحدها"، لنلتف بالتأويل والتحليل حول هذا المرتجى الذى أسس أمة من لا شىء، وهذا الذى أتى بما لم تأت به الأوائل، هل هو النبى القديم أم الريفى الجديد، لكننا لم نكن نختلف على أن كلاً منهما واحد من البنائيين العظام، واحد من القادرين على هضم كل ما سبقه وإعادة إنتاجه فى ملكوت جديد يخصه هو، ولم يكن مدهشاً أن يحمل الديوان الأخير لعفيفى عنوان "رعويات عبد الله"، ذلك العنوان الذى يزيد الأمر التباساً وغموضاً، ويزيد الدلالة انفتاحاً وثراء وقدرة على التأويل، هكذا جمعنا عفيفى لسنوات طويلة على مائدة دافئة عامرة فى عز ليل الشتاء القارص وعلى امتداد شوارع مدينتنا الصغيرة "شبين الكوم".
اتسعت الدوائر وتعددت لكن عفيفى ظل محورها بالسلب أو الإيجاب، كنا نحمله فى نقدنا أكثر مما ينبغى، وأكثر مما يحتمل البشر، ربما لأننا أحببناه كنبى للضعفاء، ورمز للثورة على كل شيء، تلك الثورة التى ظلت ومازالت حلم أجيال كاملة للآن، لم نكن نرغب لثورتنا أن تهدأ أو تهادن، لم نكن نرغب للحلم أن يتلوث بمصافحة جلاديه وليس تبيض وجههم، لكنه بخبرة السنوات التى لم تكن لدى أى منا كان يدرك أنهم لا يمنون عليه، وأن الأموال التى يبعثرونها يميناً ويساراً ليست أموالهم، وأن قبولها لصالح عمل كبير أفضل من تركها لمن على البارات وموائد السفه، فكان الوحيد من أبناء جيله وربما الأجيال التى سبقته والتى تلته الذى حول ما جاءه من أموال إلى شيء مثمر، فاستصلح الأرض وزرعها ولم يفرط فى شبر فيها، فكان الشاعر الوحيد استغنى بشعره، والوحيد الذى رغب فى إنشاء مدرسة على نفقته الخاصة لأبناء قريته، لكن مصيبته فيما يبدو كانت فى كثرة الحاقدين عليه، فوجد من عارض المشروع، ومن قام بتعطيله، ومن لم تكن لديه الرغبة تبنى عمل يذكره ليل نهار أن قدمه هو عفيفى مطر، ويبدو أن السنوات كانت تكر عليه بأسرع مما كنا نتصور، فلم يجد من الطاقة والجهد ما يقاوم به، فاختصر الحلم إلى مكتبة عامة، فرأيناه يحمل مئات الكتب من بيته فى القاهرة أو بيته فى القرية إلى بيته الجديد على رأس الحقل، ذلك الحقل الذى ترددت عليه كثيراً، لكن الكبد الذى تفتت من الحزن والضيم والعناد والقهر ما كان له أن يمهله كى يتم غرسه.
رأيت أناساً سعى لتوظيفهم، وسمعت عن آخرين أعطاهم أو اشترى لهم أرضاً، وعلمت بمن ساعدهم، ومن حاصروه عقب فوزه بالجائزة الكبرى ليحصلوا على نصيبهم من التركة، لكنه قال أنها وديعة فى البنك، رأيت الكثيرين يحسدونه لأنه رجل ثرى، وبالفعل كان الشاعر الوحيد الثرى، رغم أن ما حصل عليه كان أقل بكثير مما نالوه ومما كان يستحقه، لكنه بخبرة البنائين العظام كان يعرف كيف يبنى ولا يدمر، كيف يستصلح ولا يهدم، كيف ينفق ولا يبذر، كيف يكون عفيفاً مستغنياً عن التسول على الموائد القريبة والبعيدة.
كان من المفترض لديوانى الأول "يرفرف بجابنها وحده" أن يحمل عنوان "الأشمونى"، وهو اسم القصيدة الأولى فيه، والمهداة لعفيفى مطر، حين ذهبت به مخطوطاً إليه رأيت فى عينيه فرحة ليست كبيرة ولا صغيرة، لكنها حية ونابعة من الأعماق، قال تمهل فى النشر، وقلت لقد عزمت، وأثناء تصحيح البروفة الثانية نصحنى أحد الأصدقاء بتغيير العنوان كى لا يرتبط وجودى بوجود عفيفى ففعلت، وحين قدمت نسخة من الديوان ناقد معروف قال أننى متأثر بعفيفى، وكان ذلك سبباً لتوتر العلاقة بينى وبين الرجل، إذ كنت حريصاً على تجنب سطوته الشعرية، ويبدو أن ذلك أثار قلقاً منى تجاهه، وهو بطبيعته شعر بهذا القلق فبادلنى بارتياب مواز، وراح يعاملنى على أننى من غير الراغبين فى حضوره الشعرى، وظل الأمر على هذا النحو حتى أنجزت ديوانى الثانى والثالث، فقل توترى وقلت سخريته، ورأيته يعرف الناس بى على أننى ابنه، لكننى ابن مشاكس ومناكف، فدارت الحوارات الطويلة من جديد، كثير منها فى البدء كان عن قصيدة النثر وما بها من مشكلات وتشابه بين كتابها، وتمسكه بالإيقاع وضرورة وجود موسيقى فى الشعر، حاولت أن أتجنب الصدام معه حول آرائه وقناعاته، فلا يمكن لرجل أن يغير أفكاره التى نشأ عليها وقدم من خلالها منجزه الكبير، وبعيداً عن الحوارات والآراء المعلنة فى المجلات والصحف رايته مؤمناً بالشعر، سواء فى قصيدة النثر أو غيرها، لكنه كان يخشى من إعلان رأيه، كان يتجنب الصدام مع شعراء النثر، هؤلاء الذين رأى فيهم تكتلاً أشبه بالتكتل العصابى، كان يخشى من أن يفتحوا النيران عليه، وهو لا يملك مجلة ولا جريدة، ومحبه من الضعفاء الذين لا يملكون شيئاً مثله، لم يكن رفضه لقصيدة النثر إلا تعليقاً على سلوك بعض أصحابها، وخوفه من أن يمدح شاعراً ولا يمدح الآخر فيقع فى المحظور أو يتحول إلى مداح لكل الراغبين فى التواجد الشعرى عن طريقه، وأظنه ندم على شيء واحد فعله فى هذا الطريق من باب الحياء والخجل، إذ استثمره صاحبه بشكل لم يكن يتوقع حدوثه على هذا النحو، أظنه فى الآونة الأخيرة كان يقيم نوعاً من المراجعة الطويلة لمسيرته، وأظن أن الفيالق المحسوبة على جهات معروفة وغير معروفة لم تكن لتتركه دون هجاء أو نقد مبرح، كأن يراه البعض قد ذهب للحج بعدما عاد الناس من الحج، وكأن خطؤه ليس فى الذهاب إلى الحج الذى يمارسونه كل يوم ولكن فى توقيت الحج، لكنه على ذكر الحج فقد حج فعلاً، وشاهده الجميع على جبل عرفات يتحدث عن الأمة الإسلامية، وشعائر الإسلام، ومحمد بن عبد الله الذى وحد هذه الأمة على كلمة سواء، فمازالت من يومه حتى يومنا هذا تجتمع فى كل عام فى نفس المكان، لتعلن للناس قوتها، ولتناقش أمورها فى مؤتمر عام، وقد احتفت الإخبارية السعودية بذلك المثقف صاحب الوعى الكبير، وهو يتحدث عن الأمة وهمومها وتاريخيها وفلسفة شعائرها، ولم يكن ذلك منفصلاً عن عفيفى فى مرحلته الأخيرة، تلك التى رأى نفسه فيها ملزماً بالتعبير عن هموم أمته وانتمائه إلى فكرتها الدينية، كان يرى أهمية أن يكون للشاعر دوراً وموقفاً، لكننى فى الوقت الذى احتفينا فيه بالموقف الإيجابى لبعض كتاب الغرب فإننا انتقدناه على موقفه من مجازر البوسنة والشيشان ومقتل شامل باسييف.
يمكن القول أننا فقدنا نبياً وليس إلهاً، فقدنا رجلاً علمنا كيف يكون الشاعر نابعاً من الأرض، وليس معمداً من قبل السماء، رجلاً كان معنا على المقهى، يشعر بآلامنا ومشكلاتنا وتهميشنا وعزلنا وقتلنا المتعمد، ويصرخ مثلنا فى كل شيء بغضب، غير مسبح بحمد آلهة المشرق أو المغرب، أو متفكر فى عواقب الخروج على الصغير أو الكبير، لأنه كان المشروع الكبير الوحيد المكتمل، المشروع المتعدد الجوانب والرؤى والمراحل، المشروع الذى عجز النقد عن الإلمام به، فاكتفى أهل الاستهلاك بترديد ما أشيع عنه من كلمات، سواء بالسلب أو الإيجاب، دون القدرة على البحث أو معاودة الرصد والتحليل، كان عفيفى الشاعر الكبير الذى بيننا، والذى صنع نفسه ولم تصنعه الحكومات والأحزاب، كان الشاعر فى كل ما أتى به من أخطاء أو نجاحات، الشاعر الذى عفر أقدامه التراب، وعرف البعيدون قدره أكثر من القريبين منه، فاحتفوا به دون أن ينتظروا احتفاءنا، وما كان فعلنا إلا رد فعل على فعلهم، واحتفالنا ما كان إلا غض بصر عن احتفائهم به، فرحمه الله، كان شاعراً من أولى العزم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.