"البستان" لا يعنى بالضرورة جنينة تحيطها سياجات خضراء، تطل من فوقها فروع هاربة من "ست الحسن"، وليس بالضرورة جمالاً منفصلاً عنا، هذا ما تؤكده مجموعة "البستان"، للكاتب د. "محمد المخزنجى" الصادرة مؤخراً فى طبعة جديدة عن دار الشروق. تدور القصص فى ثلاثة عوالم، وعلى هذا الأساس انقسمت المجموعة إلى ثلاثة أقسام: عالم الفيزيقيات وتدور فيه القصص حول المحسوس والملموس، وعالم السيكولوجيات ودواخل النفس البشرية، وعالم الباراسيكولوجيات الذى لا يخضع للمنطق ولا القوانين الفيزيائية، ويحتاج إلى ما هو أبعد من الإدراك الحسى لفهمه، فيحتاج إلى حلم وخيال وبصيرة. فى كل تلك الحالات أو العوالم يتواجد الإنسان، ليجمع بينها جميعاً، لهذا فعلى الرغم من تسمية المخزنجى للقسم الأول بالفيزيقيات، إلا أن قصص هذا القسم ليست تجسيداً حرفياً لهذا العنوان، ففى قصة "ذئاب" يضعنا الكاتب على الحافة بين الفيزيقى والميتافزيقى ويتركنا دون تحديد منذ البداية فى افتتاحية القصة بقوله: "قد يكون حلماً فظيعاً له قوة حضور الواقع، أو واقعاً غريباً كالحلم. هذا ما لم أحسمه ولعلى لن أحسمه أبداً". ثم يصف الذئب على لسان طفلة بأن الذى عقرها هو رجل قبيح له أسنان كبيرة كثيرة، ثم فى آخر القصة حينما كان الصحفى/الراوى يقضى الليل وحده فى خيمة: "لقد رأيت ما يوشك أن يكون رجلاً بشعاً بأنياب كبيرة وعينين بارقتين، سمعت منه صوت تحرش مسعور". وفى قصة "العميان" تتداخل العوالم الثلاثة: الفيزيقى فى وصف المقهى، وأقداح الميلامين الثقيل التى تحوى مشروباتهم ويحملها إليهم الجرسون الأعمى أيضاً فى درج خشبى تمنعها جوانبه المرتفعة من السقوط، وفى وصف "أبو بطن" وبقاء الشوارع فى عهده مبقورة البطن (ألا تشبه شوراعنا؟!)، والسيكولوجى فى التطرق إلى دواخل العميان وترددهم فى العبور وتحادثهم الخفيض وشرودهم فى الظلام الذى وصفه: "شرودهم المرير.. شرود وجوه لا عيون فى محاجرها"، وحينما ينفجرون هلعاً إذا قلد أحد الفتيان الهازلين صوت الطيور التى تسببت فى عماهم. والعالم الماورائى فى هجوم الطيور لتفقأ العيون بعد قطع (شجرة الشجر) الكبيرة على الكورنيش. ويتكرر نفس الأمر فى قسم الباراسيكولوجيات، وبالتحديد فى قصة "البستان". بتمهيد الكاتب لها ببيتين من رباعيات "الخيام": "وقد شدا طير الصبا واختفى/ متى أتى.. يا لهفا أين غاب؟"، حيث استطاع المخزنجى بهما رسمَ صورة حية ذات ثلاثة أبعاد: لون، وصوت، ورائحة، تنقل القارئ إلى أماكن أشبه بقلعة قايتباى، وخان الخليلى، والحسين، وحوارى العتبة التجارية! الوصف فى حد ذاته ينفى احتمالية كون ما تعيشه أثناء القراءة حلم، فليس هناك ضباب ولا خيالات عابرة ولا أصوات خافتة تمر كالهفيف خلف الأذن، إنما وضوح فى الرؤية وصخب وأغان شعبية وسوق ومكان يحمل بين أحجاره تاريخاً مضيناً نوغل بين حنايا السوق القديم المسقوف، مدينة لا ينقطع تواصلها ولا تتوقف مساربها عن الامتداد. دكاكين صغيرة عطرة تتراص على الجانبين، وبينهما ممرٌ ضنين يمتد ويتفرع مفضياً إلى ممرات أخرى". وقبل أن يطغى حضور الجمال على وعى القارئ يلمّح "المخزنجي"، بأن الحلم يتبعه يقظة بترديد مقطع آخر من الرباعيات: "غد بظهر الغيب واليوم لى/ وكم يخيب الظن فى المقبل"، وقد كان، وخاب الظن فى المقبل حينما ذهب لموعده مع "الجميلة كالحلم"، فلم يجدها ولم يجد البستان، فألحّ بالسؤال على أهل المكان، وظل يتنازل عن وصفه من البستان إلى الكازينو ثم المقهى، حتى وصل إلى وصفه بالحوش، فيأتيه الرد من عيون مرتابة بأنه: "لم يكن هناك إلا سور عال يخفى وراءه خرابة، إثر بناء قديم لا يتذكره أحد"!!