مازالت التجربة الحزبية فى مصر بعد31 عامًا من ممارسة العمل الحزبى تثير الجدل، ليس فقط حول ما أنجزته، بل وأيضاً حول جدواها بداية. فمما لا شك فيه أن تلك التجربة تعانى منذ نشأتها من أزمة حقيقية، وتلك الأزمة لا يمكن أن تكون وليدة سوء تنظيم فى الأبنية الحزبية قدر ما هى وهذا هو الأهم - سوء فى تركيبة النظام الحزبى برمته الذى نشأ بموجب قانون 40 لعام 1977، والذى كان من خلاله ومن خلال الدستور والممارسة قد تعثر منذ ولادته. وبطبيعة الحال، فإن هناك مؤشرات أساسية لتعثر النظام الحزبى، يمكن إبرازها عبر الأسئلة التالية: كم عدد المصريين الذين يعلمون فى عدد من الأحزاب المصرية؟ ما هى القوانين التى استطلعت عنها السلطة التنفيذية آراء الأحزاب السياسية قبل سنها؟ كم مصرى يستطيع أن يعد 10 أحزاب مصرية من الأحزاب ال23 القائمة؟ ألا تقتصر العلاقة بين الحزب الحاكم والسلطة التنفيذية من ناحية وقادة الأحزاب السياسية على مجرد دعوة هؤلاء فى بعض المناسبات الرسمية؟ ما هو العدد المعروف لدى غالبية المصريين لرؤساء الأحزاب المصرية؟ كم من المواطنين يستطيع أن يعرف هوية الصحف الحزبية؟ كم عدد ممثلى أحزاب المعارضة فى مجلسى الشعب والشورى منذ بداية التعددية الحزبية مقارنة بعدد القوى السياسية الأخرى غير الحزبية؟ إلى أى حد يشجع النظام الانتخابى القائم على ازدهار الأحزاب السياسية....إلخ. إن الإجابة على تلك الأسئلة يجعل التجربة الحزبية بما لا يدع مجالاً للشك مجرد ديكور لنظام سياسى سلطوى أمعن فى أن تكون الأحزاب مجرد واجهة لتلميع وجهه فى الداخل والخارج، ليس هذا فحسب بل وأيضاً استطاع النظام السياسى فى مواجهة من لم تنطل عليهم تلك الخديعة الكبرى أن يفلت من جميع الاستحقاقات الدولية المرتبطة بالتحول الديمقراطى أمام أعتى القوى الخارجية، التى لم تكن هى الأخرى صادقة مع نفسها فى ممارسة الضغوط لفرض الإصلاح السياسى، فساومت عليه تحقيقاً لمصالحها فى المنطقة العربية. لقد كان التحول نحو التعدد الحزبى منذ بدايته قد أخذ وفقاً لما ذكرته القيادة السياسية حرفياً وقتئذ مسمى «التجربة الحزبية»، وكما يرى الكثيرون مازال هذا التعدد فى إطار التجربة. وقد كان هذا الأمر مرجعه إلى عدم جدية السلطة الحاكمة فى نشأة الأحزاب، وهو أمر مرتبط بشكل كامل بالبقاء فى الحكم ورفض التداول السلمى للسلطة. وبمعنى آخر فإن النظام غير المدنى القائم منذ 23 يوليو 1952 والرافض لأى حراك سياسى يعلم أنه سيكون هو أول ضحاياه، فهو المسئول عن رفض الإصلاح السياسى وعلى رأسه الإصلاح الحزبى. ومما لاشك فيه أن هذا الرفض تدعم من خلال استمرار هيمنة سياسات التنظيم الواحد على الحياة الحزبية بعد التعددية الرمزية القائمة، ممثلة فى بقاء سياسات ورموز الاتحاد الاشتراكى فى السلطة والحزب الحاكم، وبقاء رئيس الدولة على رأس الحزب الحاكم، الأمر الذى جعل المواطن العادى يخلط ولا يفرق بين معارضته للسلطة التنفيذية ومعارضته للحزب الحاكم. وأخيراً وليس آخراً، فإن هذا الاستبداد السلطوى بحق الأحزاب تدعم من خلال تأسيس نظام انتخابى أتاح منذ تسجيل الناخبين حتى إعلان نتائج الانتخابات تزوير إرادة الناخبين إزاء توجهاتهم غير الموالية للسلطة مطلقاً. وربما تتضح الصورة بشكل أكبر إذا أضيف إلى كل ذلك التشريع القائم على نشأة وعمل الأحزاب، والذى يجعل تلك النشأة بالترخيص لا الإخطار، ويفرض على الكيانات الطالبة التأسيس كأحزاب أن تستوفى أوراقاً عدة وأن يكون لها امتدادات بيروقراطية وإدارية بدلاً من أن تبحث عن امتدادات جماهيرية كما هى مازالت تبحث للآن. جدير بالذكر أن هذا القانون يعطى للسلطة حق تجميد الأحزاب إذا تعارضت مع «المصلحة القومية» ويجبرها على أن تنفذ «قواعد الممارسة الديمقراطية» وكلها عبارات هلامية مطاطة، يسأل عنها الحزب الحاكم قبل أحزاب المعارضة.. إلخ. لكل هذه الأسباب لا يمكن إلا أن تكون السلطة هى المسئولة عن تعثر النظام الحزبى القائم، وهو ما أدى إلى تحول الأحزاب لمجرد مؤسسات للمجتمع المدنى، ومن ثم لجوء الكثير من المواطنين للانضمام إلى حركات الاحتجاج السلمى عوضاً عنها، وزيادة نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، التى كان صراعها مع النظام السياسى هو الهم الأكبر للسلطة للإطاحة بالمطالب الشعبية للإصلاح.