في الختام، شكرا روسيا الطريق إلى ملعب فولجاجراد أرينا كان عربيا بامتياز، مصريون وسعوديون يسيرون فرادى أو جماعات، عدد قليل من العائلات الروسية من سكان هذه المدينة النائية يتخللون هذا التجمع العربي، فرصة استغلوها لحضور مباراة كأس عالم تقام في مدينتهم، وإن كانت بين بلدين لا يهتم أهل المدينة لأمرهما، ولكنهم يحتفون بالكرنفال العالمي الذي تستضيفه بلادهم. رغم أنني أعرف الكثير من المصريين والسعوديين زهدوا عن حضور هذه المباراة في الاستاد بعد هزيمتين متتاليتين لكلا المنتخبين، بحيث أصبحت هذه المباراة تحصيل حاصل لكلا الفريقين، إلا أنني بالعين المجردة قدرت الحضور الجماهيري بأكثر مما كان في مباراة مصر ضد الأوروجواي، وبالفعل أعلن المذيع الداخلي في الاستاد أن الحضور تجاوز 35 ألف داخل الاستاد، فيما لم نتجاوز 27 ألفا في استاد إياكترينبرج أرينا. شابان سعوديان يجلسان بجواري في منتصف المدرجات مقابل مقاعد احتياط الفريقين، أقف ومد الذراعين على امتدادهما ليظهر علم صلاح كاملا كلما توقف اللعب لسبب أو لآخر، الجماهير المصرية تشجع وتهتف، أسمع صوت الشباب السعودي بجواري ينتقدون تشكيلة منتخبهم، وأداء بعض اللاعبين، و ... يُسجل صلاح الهدف الأول لتشتعل المدرجات. الاحتقان في صفحات التواصل الاجتماعي بين مشجعي المنتخبين الذي سبق كأس العالم ظهر جليا من قبل بعض الجماهير المصرية في الاستاد عقب الهدف، وصلت مسامعنا ألفاظ سباب، وتنابذ، أما عندما احتسب الحكم ضربة جزاء للمنتخب السعودي، فأدبيات الكتابة تترفع عن ذكر ما قاله وقام به أغلبية المشجعين المصريين في الاستاد.
تألق عصام الحضري وصد ضربة الجزاء لتشتعل المدرجات من جديد بهتافات للسد العالي كما يلقبونه. خيبة أمل الجماهير السعودية تصل آذاني، ويحتسب الحكم ضربة جزاء ثانية، وهنا فلت عقال المصريين في الاستاد، ورغم وجود عائلات مصرية وسعودية مع الأطفال، إلى أن التعصب الكروي، أو الحماسة لا تراعي أي شيء. ينتهي الشوط الأول، ويصلني تعليق الشباب السعودي بجواري أنهما كانا لينصرفا لو أضاع لاعبهم ضربة الجزاء الثانية. خلال آخر 20 دقيقة من الشوط الثاني، بدأ المصريون بانتقاد اللاعبين والمدرب على أداء متخاذل، وبسبب توالي الهجمات السعودية على مرمى الحضري كنا داخل الاستاد نتوقع هدفا سعوديا ثانيا وتحدث أكثر من شخص بصوت مسموع أن الهدف السعودي الثاني قادم لا محالة، وبالفعل يسجل المنتخب السعودي هدف الفوز، ليحل الوجوم على الجماهير المصرية في الاستاد، مقابل فرحة سعودية مستحقة. صافرة الحكم تنهي اللقاء، فأجد الشابان السعوديان يقتربان مني ليمدا يديهما قائلين: ما عليه، سامحونا، فوزنا فوزكم. أبو مكة سجل الأول حتى لا تزعلون، والله حنا نحبه مثلكم. تصافحنا، وقدرت تماما ما قالاه رغم كل ما سمعاه خلال المباراة، في تقليد لليابانيين بعض المصريين والسعوديين يجمعون مخلفات الجماهير من الاستاد، ووجدت مجموعات كبيرة من السعوديين تواسي المصريين ويصرون على التقاط صور وكل طرف يحمل علم الآخر، كانت النهاية تبدو حضارية جدا، خرجت من الاستاد ووجدت مجموعة كبيرة من الشباب السعوديين يلتفون في دائرة كبيرة أمام بوابة الخروج يهتفون: السعودية ومصر .. ايد واحدة. في الطريق الطويل إلى موقف الحافلات المخصصة لنقل المشجعين من منطقة الاستاد إلى 3 نقاط مركزية في المدينة وقفت لدقائق أشاهد كرنفالا أعده الروس وسط اللامكان، يعكس الفن الروسي والحياة القديمة في المدينة، والتف حول العرض عدد كبير من المصريين والسعوديين، يصلني صوت رقيع يصيح بلوعة: "صلااااح فين صلاااااح ما شفتوش، حد خباه." واضح أن اللكنة سعودية تحاول تقليد اللهجة المصرية، ألتفت لأجد شابان سعوديان يسكتان صاحبهما الذي يحاول أن يفلت من أيديهم ليستمر في هتافه، ولكنهما نجحا في احتوائه قبل أن يتطور الموقف. الساعة تجاوزت منتصف الليل لا أصدقاء هنا، الشوارع كئيبة بعض الشيء، الجو حار، وخانق، أبحث عن مكان هادئ يرتاده فقط أهل البلد، فلا أود أن أستمع إلى صخب مشجعين، أو أي حديث عن كرة القدم. فولجاجراد ليست مثل سان بطرسبرج، فعدد المطاعم والمقاهي قليل جدا، وكلما وصلت إلى مكان، أجده مغلقا، أو مكتظ بالمشجعين وصخبهم يصل أذنك قبل أن تصل، فأغير وجهتي قبل أن أدخل، أجلس على مقاعد انتظار الحافلات العمومية، بجواري ثلة من البنات ينتظرن آخر حافلة على ما يبدو، لم يسلمن من محاولات الغزل والتقرب من كل مصري أو سعودي أو روسي يمر بالمكان، أركز في بحثي عبر تطبيق خرائط جوجل، أضع العديد من الفلاتر، أنقر على صفحات المطاعم والمقاهي، أقرأ التقييمات، ألاحظ من موقعهم أنني مررت ببعضهم، وأخيرا أجد ما أبحث عنه، هذا المكان بعيد بعض الشيء عن وسط المدينة، تبدو الصور وكأنه مطعم تديره عائلة بسيطة، الأثاث والديكور حميمي جدا، المكان فعلا صغير، هل ساعات العمل المكتوبة صحيحة؟ أيعقل أن هذا المكان البسيط يظل يعمل حتى السادسة صباحا؟ أحاول الاتصال بالرقم المسجل، ولكنه غير صحيح، فلتكن آخر فرصة أمنحها لفولجاجراد، سأذهب لأكتشف المكان، فإن كان مغلقا، فإلى الفندق وصباح الغد أغادر روسيا. عند اقترابي من المطعم وجدت بابه يفتح ويخرج شاب ليشعل سيجارة، وقبل أن ينغلق الباب لمحت طاولات وبعض الزبائن. دخلت المكان لأجد كل من بداخله يتفحصني من أسفل لأعلى، زبائن ونادلة أتت بقائمة الطعام في يدها. أتفحص المكان وأنا معجب جدا بتصميمه ليبدو كغرفة معيشة منزلية في منزل روسي لأسرة متوسطة، يدخل الشاب الذي كان يدخن، يتحدث مع النادلة ويأتي ليقف أمامي سائلا إن كنت أتحدث الإنجليزية، أجيبه بنعم، فيشير إلى المقعد أمامي سائلا إن كنت أسمح له بالجلوس، فأشير بالإيجاب. بمجرد أن عرف الشاب أنني من مصر، تحدث مع النادلة بالروسية، فأشارت لقلبها قائلة سالاخ، في إشارة لحبها لمحمد صلاح، أخرجت من الجيب الجانبي الكبير لبنطالي العلم المطوي لصلاح ووقفت فاردا له فانقلب المكان.
الحديث عن #صانع_البهجة استغرق قرابة ساعة، راموس، تغيبه في المباراة الأولى، هل كان حضوره ليشكل فارقا، مباراة مصر وروسيا، أريتهم صورة صلاح يحاول تفادي الوقوع على كتفه المصابة، تتأثر النادلة جدا، وتقول إن ابنها يعشق اللاعب المصري، بعدما انتهى جميع الحاضرين من زبائن وعاملين من التقاط الصور مع صورة صلاح، سألتني النادلة عبر الشاب الذي يجلس أمامي إن كنت أرغب في الطعام؟
قائمة الطعام باللغة الروسية، يشرع الشاب الجالس أمامي في محاولات شرح ما بها، ألاحظ أنا قائمة طويلة حقا، أندهش لأن المطعم صغير جدا، تطلب النادلة آنا، من المحامي الشاب الجالس أمامي واسمه ماكس أن يشرح لي أن المطعم تديره عائلتها، ويعتمد على طهي أي نوع من الطعام فقط عندما يطلبه الزبون، ولذا فبعض الطلبات قد يستغرق أكثر من ساعة. شعرت بالحميمية والترحيب في المكان، وطلبت من آنا أن تتولى اختيار ما ستقدمه لي من طعام، فقد أخبرتها أنني جائع جدا، وشرحت لها ما تناولته من طعام روسي منذ أن وصلت وحتى اليوم، وطلبت منها أن تختار أصنافا جديدة. المسكينة شعرت بمسئولية حاولت التنصل منها، لكن ماكس الذي يبدو أنه زبون دائم ساعدها وشرعا في إخباري بما يقترحاه من أصناف الشوربات والمقبلات والطبق الرئيسي.
أتت آنا بعد دقائق بطبق من سمك مملح كمقبلات، وقال ماكس إنه على حساب المحل، وآنا لن تضيفه للفاتورة فقط لأنني مصري وسمحت لها بالتصوير بجوار علم محمد صلاح، أشكرها وأصر أنني سأدفع لاحقا ثمن كل ما سآكله، ولكن ماكس يقاطعني بأنه أيضا سيدعوني على الطبق الرئيسي، وما سأدفعه فقط هو ثمن الشوربة، نتجادل، ولكن ماكس يأخذ الموضوع بجدية ويخبرني بأن رفضي لدعوتهما تعد إهانة فأمتثل، اخترت شوربة تقدم باردة، وهي طبق صيفي، والجو فعلا خانق ورطب بعض الشيء، ولم أتناول في حياتي طبق شوربة يقدم باردا. ساعات من الحوار مع آنا وماكس عقب انصراف كافة زبائن المحل، ماكس محامي شاب روسي ثوري بعض الشيء، منضم لجماعات تناهض الإمبريالية العالمية، ولكنه في الوقت نفسه ضد بوتن، يؤمن بالحريات الفردية وانتقد كثيرا قمع الحريات في روسيا، بل وجدته مصابا بالهوس الأمني بعض الشيء، فهو لا يمتلك أي حساب تواصل اجتماعي، ولا يحمل هاتفا ذكيا أبدا.
الساعة تقارب السادسة صباحا، قضيت ليلة جميلة مع ماكس وآنا تنوع فيها حديثنا من الدين للقضية الفلسطينية لترامب وبوتن والاتحاد الأوربي، التاريخ، الحرب العالمية، والأخيرة تشكل حيزا ضخما في الوجدان الروسي الجمعي، مثل القضية الفلسطينية عند العرب، فلا يمكن أن تتحدث مع روسي في السياسة لمدة ساعة جون أن يتطرق إلى الحرب العالمية الثانية. بدأت النادلة ترتيب المكان تمهيدا لغلقه، طلبت فاتورتي، وفعلا كانت بملغ زهيد جدا، فقط ثمن الحساء البارد، وزجاجات المياه، أصبت بحيرة، كيف أرد الجميل، سأغادر المدينة خلال ساعات، فأتوصل لفكرة جيدة، أخرج علم صلاح المطوي من جديد، وأقدمه ل آنا، وأطلب من ماكس الترجمة، سأهديها علم محمد صلاح، وهو هدية متواضعة ولكن رمزية، فقد أعجبتني فكرة أن يظل علم محمد صلاح في روسيا، مع جمهور يعشقه، لم تصدق السيدة نفسها من الفرح، حاولت رفضه، قائلة إنه هدية كبيرة جدا بالنسبة لها لتقبلها، تحدثت عن ابنها الذي سيطير من الفرح لو رآه، أصريت على موقفي، ومنحتها العلم.
دفعت الحساب، فأوقفني ماكس عن الانصراف قائلا إنه سيوصلني للفندق بسيارته مع آنا، حاولت كثيرا أن أرفض فهذا كثير، ولكنه أمسكني من ذراعي ووضع سبابته أمام شفتيه المضمومتين في إشارة إلى أنني لا يجب أن أعترض، دقائق مرت أنهت فيهما آنا ترتيب المطعم سريعا، وساعدها ماكس في تنظيف الطاولات رغم أنه زبون فشعرت بالإحراج وشاركت معهما في التنظيف، خرجنا إلى السيارة، وضع تطبيق جوجل للخرائط ليرشدنا إلى مكان الفندق ولكن ماكس، أخبرني أن أوقف التطبيق لأننا سنصطحب آنا أولا لمنزلها.
ساورني الشك قليلا، خاصة مع خروج السيارة من المدينة إلى منطقة الضواحي الزراعية، لكن نفضت الشكوك من رأسي، فهذان الشابان رائعان، ولا أعتقد أنهما يضمرا لي أي سوء، وصلنا لمنزل آنا، فخرجت من السيارة، ولم يتحرك ماكس، سألته، فقال انتظر لدقائق، عادت آنا ووقفت أمام نافذة السيارة عن يميني، ففتحت النافذة لأجدها تناولني ظرفا ورقيا صغيرا، لم أفهم، فطلبت مني أن أفتحه، وجدت ورقة نقدية غريبة الشكل وجميلة التصميم جدا، عليها شعار كأس العالم، ورقم 100 روبل.. لم أصدق، فأكد لي ماكس أن آنا شعرت بالحرج لأنني أهديتها علم صلاح وهو ذا قيمة كبيرة جدا لديها ولدى أسرتها، فأصرت أن تهديني شيئا أكثر قيمة من طبق الأسماك المملحة الذي لم يعجبني كثيرا.
لا يمكن أن أقبل بهذه الهدية، فقد سمعت عن هذه العملة التذكارية الخاصة التي أصدرها البنك المركزي الروسي، وسمعت خلال الأيام الأولى بعض المشجعين يتحدث أن قيمتها وصلت 300 يورو، ولكن آنا أصرت أن أقبل هديتها كما قبلت هي هديتي، خرجت من السيارة واحتضنتها شاكرا متأثرا بمشاعر هؤلاء الأشخاص الصادقة وكرم الضيافة الحقيقي الذي وجدته طوال تلك الليلة والذي محا كل مشاعري السلبية تجاه مدينة ستالين منذ مشكلتي مع إدارة الفندق، وصولا إلى هزيمة المنتخب المصري. ودعنا آنا وأوصلني ماكس لفندقي وودعنا بعضنا البعض ووعدته بأن أزورهم إن قدمت لروسيا، فأجابني ساخرا بأنه لو ظل حيا فسأجده يوميا في نفس المطعم، ونصحني بآلا أزور روسيا من جديد، فهناك دولا أخرى في العالم تحترم حقوق الإنسان وحريته. سباسيبا بولوشيا قلتها مودعا لماكس، وشددت على يديه وودعنا بعضنا، فقلت له: "دوبرا نويتشي" وضحكنا من المفارقة فالترجمة الحرفية هي ليلة سعيدة، فيما الساعة تجاوزت السابعة صباحا، ذهبت للنوم وعلى وجهي ابتسامة وفي ذهني عبارة واحدة. سباسيبا بولوشيا راصيّا ... شكرا جزيلا روسيا. @MawlanaAlRazi