دخلت اتفاقية حوض النيل فى مختنق شديد الخطورة، ولا تبدو لها فى الأفق انفراجة، بعد أن وقعت بوروندى اتفاقية تقاسم مياه النيل قبل أيام، مما يمهد الطريق لإقرارها، وبالتالى لتجريد مصر من العديد من امتيازاتها فى مياه النهر، وأبرزها حق الفيتو فى منع إقامة أى مشروع على النهر خارج أراضيها، وخاصة مع "تعنت" الموقف الأثيوبى تجاه مصر، وهى التى تتحكم فى 85% من حصتها فى المياه، فيما تتحكم أوغندا وتنزانيا فى ال15% المتبقية. وبعد توقيع بوروندى بات من الممكن أن تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، وبموجب القانون الدولى السارى، كان لا بد من أن توقع ست من الدول الأطراف على الاتفاقية قبل أن يجرى إقرارها فى برلماناتها، ومن المتوقع أن تتم المصادقة عليها فى جميع البرلمانات الستة. هكذا تمر المعلومات على الناس مر الكرام، دون أن تجد أذنا تسمع ولا عينا ترى، ولا ذهنا يتأمل، رغم أن شهرين فقط تفصلان بينهم وبين تطبيق دول المنبع لاتفاقية "عنتيبي"، والتى تسمح لهم بإقامة مشروعات مائية دون موافقة دولتى المصب، مصر والسودان. شهران فقط بيننا وبين شهر مايو القادم، الموعد النهائى ل"المهلة" التى منحتها لنا دول المنبع بقيادة أثيوبيا، فإما أن نوقع عليها "صاغرين"، أو تعتبر سارية ويموت أبناؤنا عطشا. ومصر، التى أضاعت فى ظل النظام الساقط عشر سنوات دون أن تتخذ خطوات حقيقية وجادة وناجحة فى رأب الصدع الأفريقى الذى سيطيح بحصتها فى النيل، ويهدد أهلها بالعطش، ليس من المحتمل فى ظل وجود وزير الخارجية نفسه، وبعد كل تلك السنوات الخاملة أن تنجح عبر شهرين فقط فى فعل هذا الشىء، وخاصة بعد تجرؤ أثيوبيا على تهديد مصر بشكل مباشر بالحرب، مستغلة حالة مصر "المغيبة" التى عرفناها جميعا فى العقود الثلاثة الماضية. أما السودان، وهو الشريك الوحيد معنا كدولة مصب، ليس أفضل منا حالا، ولم نكن أفضل منه فعلا، حيث أضاع نظامه أيضا سبع سنوات منذ اتفاقية نيفاشا، ليفشل فى النهاية فى الحفاظ على جنوبه، بل نجح الفاشلون الذين يديرونه فى شىء واحد، هو كُفر السوادنيين الجنوبيين ببنية أى دولة يكون فيها هؤلاء، فمن المرجح إذن حسب الدلالات والمقدمات والتجارب، أن تواجه مصر والسودان مجتمعتان تهديدا صريحا بضياع مائهما، لو لم تنسينا أحداث الثورة الداخلية أزمة مياه النيل ومستقبلها، وإلا فليؤهل الشعب نفسه إذن للعطش والجوع، بالإضافة إلى ما يعانيه من أزمات. فهل تمتلك مصر بديلا عن النيل؟ لا، فمصر هبة النيل، مهما تشدق البعض بكلمات تافهة عن أن مصر هبة المصريين، ومهما حذر وزير الخارجية أو وزير الرى من تنفيذ اتفاقية عنتيبى، وكل هذا الكلام غير المفهوم عن القانون الدولى، الذى بات الآن يسمح لهم بذلك، حيث لا يمكننا أن نفهم تحذيرا بدون استخدام كلمة و"إلا"، وهى الكلمة التى لم تستخدم فى مصر منذ أواسط عهد السادات، الذى هدد بالحرب من أجل النيل. فماذا نحن فاعلون إذا نفذت دول المنبع اتفاقيتها بمعزل عنا، أو بالأصح بتجاهلنا؟ سؤال لا يجوز الكف عن ترديده، بل يجب على كل المصريين -فى ظل ثورة يجب أن تجب ما قبلها من ضعف وتهاون- أن يتخذوا كل ما يمكن عمله، خاصة وأن الآن على رأس مصر قواتها المسلحة، ومن ورائها شعب جاهز أن يساندها فى كل ما تتخذه من خطوات لحمايته، وحماية مياهه ومستقبله. فيجب أن تتسارع الخطى الآن، بعد أن سبق للنظام الساقط، بمعرفة وزير الخارجية القائم، أن أضاعوا أكثر من فرصة عندما أجلوا اجتماعا مع دول المنبع بسبب "إنجاز مهمة" انتخابات مجلس الشعب، والتى كانت بالتأكيد فى نظرهم أهم من مستقبل مصر وشعبها وأجيالها القادمة. عشر سنوات أضاعها النظام المخلوع دون أن ينجح فى تأليف قلوب دول المنبع الأفريقية، حيث كان مشغولا بتمكين الفاسدين والفاشلين من أجل ترتيبات التوريث، كما لم ينجح نظام السودان فى إقناع شعبه فى الجنوب بفكرة الوطن الجامع، حيث كان مشغولا أيضا بصراعاته الحزبية على السلطة. ولا أدرى كيف يحتمل هؤلاء الحياة وهم يضيعون أوطانا؟ ولا أدرى كيف سنحتمل نحن الحياة، ونحن نضيع نهرا هو وسيلة حياتنا الوحيدة؟ فهل بات علينا إذن أن نلغى كل أغنيات النيل؟.. والمصريون هم أكثر شعوب هذا النهر العظيم غناءً له وتدليلا وعشقا. هل يجب أن نحذف من الذاكرة كلمات محمود حسن إسماعيل وصوت عبد الوهاب فى قصيدة "النهر الخالد"؟ هل سنتناسى بيرم التونسى وأم كلثوم فى "شمس الأصيل"؟ هل سنتغافل عن هدهدة نجاة وهى تقول عطشان يا اسمرانى محبة؟ وهل إذا فعلنا نستحق الحياة؟ فهل سنضيع النيل كما ضيع السودان نصف وطنه دون أن يموتوا جميعا فيه؟ ألا يستحق هذا النهر أن ندافع عنه بكل الوسائل؟ ألا يستحق أن ندفع دماءنا فداءه؟ فإذا لم نفعل، ضيعناه.. وإذا ضاع النيل، ضاعت مصر.