إذا كان البركان بعد أن يثور ويلهب الأرض يخرج من بطنها معادن، فلا عجب من أن تخرج الثورات من الأوطان أبطالاً. فالتاريخ هو أعظم شاهد على هذا: فالثورة الفرنسية فى القرن الثامن عشر (فى ما خلا عيوبها) أطاحت بالتعسف الملكى المستبد، وأظهرت قادة عصر التنوير، وأبرزت العولمة بما تحمله من عيوب ومميزات فى أجلى بيان لها. وعلى النقيض قامت الثورة الإيرانية وأطاحت بذلك الشاه الذى كان يتشبه بالغرب، وأظهرت لنا السلطة الدينية فى أوضح صورة لها (بما تحمله أيضاً من عيوب ومميزات). وأيضاً قامت الثورة البرتقالية فى أوكرانيا ناكرة نتائج الانتخابات الرئاسية المزورة وأوضحت الحقيقية. فالثورات تسقط الشرعيات: فيمكنها أن تسقط شرعية الدستور وشرعية الرئيس. فالدستور الذى كان بمثابة كتاب مقدس للأمة فى الأمس، أصبح قابلاً للنقض والتعديل فى اليوم الحاضر. ولا عجب ولا حرج فى ذلك. فإن كان ذلك الدستور لا يوافق عليه الشعب، فما معنى شرعيته من الأساس؟ ولكن الأهم من الإسقاط بالشرعية، هو النهوض بأخرى يجتمع ويوافق عليها أغلبية الشعب. فمرحلة بناء الشرعية هى مرحلة من أصعب وأخطر المراحل التى تمر بها الأمم. فكما نعلم أن شرعية الدستور على سبيل المثال وليس الحصر هى أم لكل القوانين.. فلا يمكننا أن نتخيل دولة بلا قانون فى يوم من الأيام. فكل ثورة على مر العصور تٌطيح بنظام وتأتى بآخر، ولكن أيضاً أثر هذه الصيحات الثورية ممتد أيضاً إلى الشعوب، وليس الأنظمة فحسب. فإذا تغيرت الأنظمة وبقت الشعوب على حالها لكان صائباً ذلك بيت الشعر القائل على لسان إيليا أبو ماضٍ: "الذى نفسه بغير جَمال لا يرى فى الوجود شيئاً جميلاً". فهذا هو ما تشهده الآن مصر، حفظها الله شعباً وأرضاً، بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. فنحن الآن فى فترة انتقالية ليس للدولة ومؤسساتها فحسب، بل إنها أيضا فترة انتقالية للشعب المصرى أيضاً الذى بيديه أن يستخدم عجلة هذه الثورة، إما بالنهوض بمصر على درب التقدم واستكمالاً لفترة الحضارة التى قامت ببنائها على ضفى النيل، وشهد لها بناة الأهرامات، وإما تستخدم هذه العجلة للرجوع إلى الوراء. فهيا بنا يا بناة مصر نبنى قواعد المجد. فالسؤال الذى يطرح نفسه هو، هل نحن المصريين قادرون على أن نطوى صفحة من التاريخ ونقلب الموازيين، ونبدأ صفحةً بيضاء تملأها ثمار الديمقراطية والمدنية؟ هل نحن قادرون على إعادة الثقة بين المواطن المصرى والجهاز الأمنى ومؤسسات الدولة؟ فالإجابة: نعم نستطيع القول إن الإنسان المصرى الذى استطاع أن يبنى حضارة وأهرامات منذ آلاف السنين، يستطيع هو أيضاً الآن أن يبنى حضارته الحديثة بسواعد العمل والجّد. بل إن ذلك الإنسان أيضاً قادر على نزّع كل مظاهر الفساد التى تغلغل فى مؤسسات الدولة. نعم نحلم بالمدينة الفاضلة أن تكون هى مصر. مصر التى حينما نظر العالم إليها فى الماضى فأدهشته بحضارتها.